الواقع أن تدهور البنية التحتية كان من المشاكل البارزة في المدينة منذ عقود، والصراع المسلّح ما جاء إلا ليزيد الوضع سوءاً. فمعظم الطرق والجسور أُنشئت في ثمانينيات القرن الماضي، وتهالكت حالتها مع مرور الزمن، ومع ذلك اقتصرت صيانتُها على رصفها مؤقّتاً، وطلاء أرصفتها، وإمدادها بأعمدة الإنارة. هذا وطال الإهمال محطات الرفع والضخّ، وشبكات الصرف الصحّي، التي لم تخضع لأيّ صيانة أو تجديد منذ العام 1988.[4] أَضِف إلى ذلك أن محطات الكهرباء لا تقوم بتوليد الكهرباء بشكل كافٍ بسبب عدم إجراء الصيانة اللازمة لها. وفي غياب هذه الخدمات العامة، حاول السكان تغطية احتياجاتهم الأساسية بأنفسهم، الأمر الذي أثقل كاهلهم.
ما مدى التضرّر في حيّ الصابري؟
يُعَدّ حيّ الصابري من الأحياء ذات الكثافة السكانية التي تأثّرت جداً بالحرب، وعانت تدهوراً كبيراً في البنية التحتية. والحيّ الشعبي ذو عراقة تاريخية، إذ إنه من الأحياء الأولى التي بُنيَت منذ تأسيس مدينة بنغازي، وهو يرتبط بسكانه حيث سُمّيَت غالبية شوارعه بأسماء عائلات المنطقة. يتميّز الصابري بموقع استراتيجي قريب من مركز المدينة، ويطلّ بمسافة 5 كلم على الواجهة البحرية من الغرب.
لا يختلف وضع حيّ الصابري في العام 2022 كثيراً عمّا كان عليه في فترة انتهاء الحرب، حيث لا تزال آثار الصراع ظاهرة، والمباني المدمّرة على حالها. ولم تُنفَّذ أعمال صيانةٍ فعليةٍ على الجسور المُدمَّرة المؤدّية إلى المنطقة وفقاً لمعايير إنشاء الجسور، بل جرَت صيانتها فقط عن طريق ردمها ورصفها.[5] ولم تخضع قنوات الصرف الصحّي بدورها للصيانة، ما تسبّب بتجمّع مياه الأمطار نظراً إلى عدم قدرة هذه القنوات على تصريفها. وقد تدهورت حالة الطرق، وازدادت الحفريات وبرك المياه، ما أدّى إلى إغلاق تام لشوارع الحيّ الداخلية. هذا وتضرّرت شبكة الكهرباء في المنطقة وانهارت، وانقطعت شبكات الاتصالات.[6]
فضلاً عن ذلك، أسفرت الحرب عن نزوح 6320 عائلة من المنطقة[7] بعد اندلاعها في العام 2014، واضطّر سكان الحيّ إلى الانتقال منه إلى مناطق بعيدة عن الصراع. وفي حين عاد جزء من العائلات بعد أن أعلنت القوات المسلّحة العربية الليبية عن استقرار الحيّ في تموز/يوليو 2017،[8] لم يَعُد جزء آخر منهم بسبب تدمّر مساكنهم بشكل كامل، أو جرّاء عدم شعورهم بالأمان نظراً إلى غياب سكان مجاورين لهم.[9]
وقد أدّت هذه الأوضاع خلال سنوات الصراع إلى تغيّر ديمغرافي في حيّ الصابري لسببَين. أولاً، قام بعض سكان الحيّ ببيع منازلهم[10] لتخفيف حدّة المصاريف السكنية، والاستقلال في منازل خاصة بهم في حيّ آخر، فانتقلت عائلات مختلفة إلى حيّ الصابري بعد استقرار الوضع فيه. ثانياً، عاد بعض السكان إلى المنطقة تدريجياً بعد أن كانوا نشأوا خارجها. فكانت النتيجة حصول تغيّرٍ في النسيج الاجتماعي للمنطقة، التي كانت تشتهر بتاريخ عائلاتها القديمة، ما أضعف الترابط الاجتماعي بين سكانها. وقد انعكس ذلك على سلوك السكان، وتغيّرت ثقافة القيم الاجتماعية في المنطقة.[11] ويواجه السكان صعوبةً في التأقلم مع الحياة في حيّ الصابري، وهم في حالة انتظارٍ لعملية إعادة الإعمار لتخفيف معاناتهم، وإعادة بناء الأماكن المتضرّرة.
كيف أدارت السلطات عملية إعادة الإعمار؟
سعياً إلى معالجة الوضع الذي آلت إليه المدينة، أعلنت الحكومة المؤقّتة برئاسة عبد الله الثني إنشاء صندوق إعمار في العام 2016، من دون ذكر ميزانية محدّدة، بغية إصلاح الأضرار التي لحقت بالمدينة، وتفعيل المشاريع السابقة، ولكن لم تُحقَّق أيّ نتائج تُذكَر.[12] وفي 6 أيار/مايو 2021، أعلن مجلس وزراء حكومة الوحدة الوطنية القرار رقم 45 لإنشاء صندوق إعمار مدينتَي بنغازي ودرنة بقيمة مالية تبلغ مليار ونصف المليار دينار ليبي. وأكّد القرار على استقلال الذمّة المالية والشخصية الاعتبارية لإدارة الصندوق، الذي يكون مقرّه في مدينة بنغازي. ومع ذلك، لم تلحظ هيكلية الصندوق الآليةَ الفعليةَ لتنفيذ عملية إعادة الإعمار.[13]
لا تزال عملية إعادة الإعمار غير واضحة الملامح، إذ لا يوجد تصوّر نهائي حولها لدى الجهات المعنيّة بها. فلم تُحدَّد بعد إلى يومنا هذا أيّ خطةٍ لمسار تنموي يتماشى مع مخطّط المدينة، حيث تُؤخَذ في الحسبان المتطلبات والمعايير التخطيطية على أُسُس مستدامة.[14] وما أثّر أيضاً على سير عملية إعادة الإعمار مشكلةُ العقود المتوقّفة، لأسباب عدّة منها تغيّر سعر العملة وعدم الاستقرار الأمني، والتي تفوق قيمتُها الميزانيةَ المُتّفَق عليها.[15] فما يجري تنفيذه في الوقت الحالي هو مجرّد صرف تعويضات بسيطة عن الضرر والنزوح، وأعمال تأهيل وصيانة للمباني المتضرّرة، كالمدارس والعيادات والمرافق العامة.[16]
جهود السكان للعودة إلى الحياة
اضطّر السكان إلى البحث عن بدائل لعملية إعادة الإعمار. وحاولوا بعد انتهاء الصراع المسلح في 2017 العودة إلى الحياة بمجهودات شخصية ضمن مراحل ثلاث. عمدوا في المرحلة الأولى إلى معالجة مشكلة طفح مياه الصرف الصحّي، فاستعانوا بخبراء لإعادة تشغيل محطة السحب. وهكذا تمّ تفريغ مياه الصرف الصحّي لمدّة أسبوع، والعمل على اختبارات تلوّث، والكشف على البيوت المتضرّرة لضمان العودة الآمنة. وخلال هذه الفترة مُنِع الأطفال والمرضى من العودة السريعة، في حين جرى تعقيم الشوارع بواسطة سيارات الإطفاء باتفاقات خاصة بين السكان.[17]
ثم انتقلت جهود السكان إلى المرحلة الثانية القائمة على تنظيف مخلّفات الحرب. فجمعوا الأموال والآليات لتنظيف ركام المباني، كما عملوا على صيانة الطرق وإعادة رصفها مؤقّتاً. ولكن بسبب الكثافة العمرانية، واجهوا صعوبات في مسح الألغام في المنطقة وتفكيكها، وهما مهمّةٌ تولّتها الهندسة العسكرية. فبعض السكان استعجلوا في الرجوع إلى مساكنهم من دون انتظار إتمام عملية المسح، الأمر الذي أدّى إلى وقوع ضحايا لدى تفجير بعض المباني.[18] أما المرحلة الثالثة والأخيرة فاعتمدت على جهود المختصّين من السكان لإعادة التيار الكهربائي إلى المنطقة، قبل الاستعانة بشركة الكهرباء العامة.
على الرغم من العوائق المتمثّلة في انعدام الأمن، وانهيار شبكة الكهرباء، وتسرّب مياه الصرف الصحّي في المنطقة، استطاع بعض السكان تحسين وضع حيّ الصابري، والعودة إلى مساكنهم بصورة طبيعية إلى حدّ ما. غير أن معاناتهم تتواصل بسبب غياب الخدمات العامة في المنطقة كالمدارس والأسواق، ناهيك عن غياب الشعور بالأمان ولا سيما ليلاً، نظراً إلى وجود مناطق شبه مهجورة مجاورة للحيّ.
خاتمة
تُعَدّ مدينة بنغازي مركزاً إدارياً وسياسياً في المنطقة الشرقية لليبيا. فهي تربط بين المدن الليبية الأخرى على ساحل البحر المتوسط، كالبيضاء في الشرق، وسرت في الغرب، في حين أن سكان الضواحي المجاورة يعتمدون على خدماتها العامة مثل الصحة والتعليم. ولكن خلال السنوات الأخيرة طال الدمار الناتج عن الصراع المسلّح معظم المباني التي لها هوية تاريخية وأهمية إدارية. إضافةً إلى ذلك، ازداد التعداد السكاني للمدينة، وأصبح أكبر من قدرتها على الاستيعاب، ما أثّر على مستوى الخدمات المتوفّرة، وتسبّب بازدياد البناء العشوائي فيها.
ولا يزال الحكم المركزي يتعامل بشكل غير فعّال مع الواقع على الأرض، حيث تُخصَّص ميزانيات المشاريع من دون تخطيط شامل، وبالتالي لا يتم تنفيذها. والواقع أن البلدية هي أقرب إلى فهم احتياجات السكان، وتشكّل بالتالي حلقة الوصل بينهم وبين الحكومة المركزية.[19] لذلك يجب أن يتم تحسين التنسيق ما بين الحكومة المركزية والحكومة المحلية عن طريق الجهات التي تلعب دوراً مهماً في عملية إعادة الإعمار مثل وزارة الإسكان والمرافق والتعمير، ومصلحة التخطيط العمراني، وأيضاً المركز الوطني الليبي للمواصفات والمعايير. وهذا للوصول إلى وضع استراتيجية لأولويات العملية المتمثلة في الاستجابة الآنية، وإشراك السكان في العملية، والتعوضات عن الضرر، وتشريعات الملكية.
[1] مقابلة مع عضو في هيئة الإسكان والمرافق. 27 سبتمبر 2021
[2] العربي الجديد، "إهدار كرامة بنغازي... هكذا دمّر حفتر أكبر مدن الشرق الليبي"، 20 تموز/يوليو 2017، https://bit.ly/360TRjd
[3] بوابة إفريقيا الإخبارية، "الحضارة الإنسانية ببنغازي تعرضت للدمار وجهاز المدن التاريخية يعيد ترميمها"، 7 كانون الثاني/يناير 2021، https://bit.ly/3MVfHFe
[4] الشرق الأوسط، "إعادة إلاعمار... ملف ثقيل ينتظر مدن ليبيا ’المحررة’"، 15 شباط/فبراير 2020، https://bit.ly/37yAX3C
[5] قناة ليبيا، "المباشرة برصف الجسر الرابط ما بين منطقتي الصابري واللثامة"، 30 نيسان/أبريل 2018، https://bit.ly/3u6v0me
[6] فسانيا، "انهيار البنية التحتية في ليبيا شيء ملحوظ وواقع يعاني منه الليبيون بالكامل"، فايسبوك، 1 أيار/مايو 2016، https://bit.ly/3w6T8HV
[7] العربي الجديد، المرجع السابق.
[8] أحمد سيد عبد الحفيظ، "الجيش الليبي يحرر مدينة بنغازي بالكامل بعد 3 سنوات من القتال"، العين الإخبارية، 5 تموز/يوليو 2017، https://bit.ly/3IaotM5
[9] مقابلة مع أحد سكان حيّ الصابري حول عملية رجوع السكان إليه. 22 فبراير 2022
[10] عمد سكان مدينة بنغازي إلى شراء بعض المنازل في حيّ الصابري بغرض الاستثمار.
[11] مقابلة مع أحد سكان حيّ الصابري.17 فبراير 2022
[12] بوابة إفريقيا الإخبارية، "العريبي: إنشاء صندوق لإعمار بنغازي والمدن المنكوبة"، 25 شباط/فبراير 2016، https://bit.ly/3CRP6o3
[13] الحدث، "الحكومة المؤقّتة تصدر قراراً بإنشاء صندوق لإعادة إعمار مدينتَي بنغازي ودرنة مقرّه ببنغازي بقيمة مليار و500 مليون"، 6 أيار/مايو 2021، https://bit.ly/3JjHH3i
[14] مقابلة مع عضو سابق في إدارة مصلحة الأملاك مختصّ في المسار الاقتصادي لعملية إعادة الإعمار. 17 اكتوبر 2021
[15] مقابلة مع عضو في المسار الاقتصادي في بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا. 4 ديسمبر 2021
[16] الشروط الأساسية لعملية إعادة الإعمار: "ترتكز عملية إعادة الإعمار الناجحة على بناء الدولة بشكل فعّال وتحقيق تعافٍ اقتصادي مستدام ومتوازن وطويل الأمد". عمرو عادلي، ومحمد العربي، وإبراهيم عوض، "إعادة الإعمار في الدول العربية بعد الحرب: استمرار الصراع بوسائل أخرى، مركز مالكوم كير - كارنيغي، 24 شباط/فبراير 2021، https://bit.ly/3MVfmCI
[17] مقابلة مع أحد سكان حيّ الصابري حول عملية رجوع السكان إليه. 22 فبراير 2022
[18] المرجع السابق.
[19] مقابلة مع عضو في المسار الاقتصادي في بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا. 4 ديسمبر 2021