Home page

يمكن تنزيل منشورات المشروع لأغراض البحث الشخصية فقط. إن أيّ استنساخٍ إضافيّ لأغراض أخرى، سواء على شكل نسخ مطبوعة أم إلكترونية، يتطلّب موافقة المؤلّفين.
أما في حال الاستشهاد بالنص أو اقتباسه، فيجب الإشارة إلى الأسماء الكاملة للمؤلّفين والمحرّرين، إضافةً إلى العنوان، والسنة التي نُشِر فيها، والناشر.

التمهيد للأزمة: التدهور السياسي للزراعة في سوريا

  • الكاتب: نذير ماضي
  • التاريخ: الأربعاء, 15 كانون الثَّاني 2020
  • ترجمة: فريق دوكستريم

تحميل الملف pdf

ملخّص تنفيذي

حاول نظام الأسد في العقد السابق لعام ٢٠١١، ترسيخ هيمنته السياسية عبر اتّباع برنامج إصلاح اقتصادي. أدى هذا البرنامج، الذي سُمِّي في حينه "اقتصاد السوق الاجتماعي"، إلى تقليص التدخل الحكومي والإنفاق العام من دون إلغاء دور الدولة في الضمان الاجتماعي. اختلفت طبقة التكنوقراط والسياسيين التي تولت الإصلاح مع الفئة المدافعة عن سياسات حماية الإنتاج المحلي، والراغبة في الحفاظ على النهج البعثي التقليدي المتمثل في اقتصاد زراعي مدعوم من الدولة. عام ٢٠٠٥، أنهت الخطة الخمسية العاشرة مفهوم الاكتفاء الذاتي البعثي، القائم على الاكتفاء الذاتي من الإنتاج المحلي، واقترحت تحقيق الأمن الغذائي من خلال استيراد السلع، ولا سيما القمح، وتداولها تجارياً. إلا أن سرعة تنفيذ الإصلاحات أدت إلى حالة من البلبلة، وانتهت بتراجع واضح في القطاع الزراعي. تأثر إنتاج الحبوب على وجه الخصوص، ما أدى، معطوفاً على الجفاف بين عامَي ٢٠٠٧ و٢٠٠٩، إلى حدوث أزمة وطنية.

رغم الآثار العميقة للنزاع في سوريا منذ عام ٢٠١١، يبدو أن الحكومة واصلت اتّباع السياسات التي وضعتها للزراعة. فقد تحول دور الإنفاق العام من دعم الإنتاج عبر دعم العمل الزراعي، إلى اعتماد برامج لدعم الأسعار ترمي إلى تشكيل الإنتاج والسوق. عوّضت الحكومة النقص في الإنتاج المحلي بالاستيراد، وأولت اهتماماً أكبر للدور التنافسي للقطاع العام في السوق، حيث كان القطاع العام يتنافس مع جهات غير حكومية لشراء القمح والسيطرة على السوق. وقد عزّز ذلك احتكار الحكومة للشرعية، وفي الوقت نفسه، ساهم في اقتصاد حربٍ عاد بالنفع على بعض رجال الأعمال الموالين للنظام.

شهدت المجتمعات الريفية الأكثر تأثراً بالإصلاحات ارتفاعاً في معدلات الفقر والبطالة في ظل تراجع الإنتاج الزراعي، فيما أدى العنف إلى الحدّ من قدرة هذه المجتمعات على الوصول إلى الأسواق والغذاء. كذلك أثر النزاع على سوق العمل عبر اجتذاب الرجال للانضمام إلى الميليشيات المسلحة – أو إجبارهم على ذلك- واضطرار أعداد كبيرة من السكان إلى النزوح واللجوء خارج البلاد. حدث ذلك بأوضح صورة في المناطق الجافة، مثل منطقة سلمية جنوب شرق محافظة حماة، والتي أدى فيها مزيج الفساد في القطاع العام وتنامي هيمنة أمراء الحرب إلى انهيار السوق المحلية والقدرة الشرائية لدى السكان، ما دفع المزيد من السكان إلى النزوح أو إلى الانخراط في اقتصاد الحرب.

حقق رجال الأعمال المسلّحون أرباحاً كبيرة، وبدأوا بالاستثمار في شركات قانونية وبإقراض الأموال للمنتجين الزراعيين الذين أفلستهم الحرب. يمتلك أمراء الحرب هؤلاء العديد من شركات التصنيع الأولي وسلاسل الإمداد، التي بدورها تتحكم بقدرة المنتجين الزراعيين المحليين على الوصول إلى السوق. وتمكن هؤلاء من أداء دور أساسي في القطاع الزراعي رغم عدم مشاركتهم في عملية الإنتاج الزراعي.

خلق هذا وضعاً حرجاً للمنتجين الزراعيين العالقين بين مطرقة انسحاب الدولة والأضرار التي سببها النزاع، وسندان هيمنة رجال الأعمال المرتبطين بالميليشيات على الديون ومستلزمات الإنتاج الزراعي والوصول إلى السوق والأمن. لذلك لا يبدو مستقبل القطاع الزراعي مبشراً، ومن المرجح أن يستمر تدهور الإنتاج الزراعي، ما سيضطر المزيد من السكان إلى النزوح نتيجة الفقر حتى بعد انتهاء العمليات القتالية.

مقدمة

تحتل الزراعة موقعاً محورياً في الحياة السياسية في سوريا، فطالما كانت سبباً للاستقرار أو النزاع في تاريخ سوريا الحديث. كان الإنتاج الزراعي المحلي مساهماً أساسياً في استهلاك سوريا الغذائي، وحتى عام ٢٠١١، كانت الزراعة في المرتبة الثالثة بين مصادر الناتج المحلي الإجمالي. وكما حدث في القطاعات الاقتصادية الأخرى، بل وفي مختلف جوانب الحياة السوريّة، ألحق النزاع ضرراً كبيراً بقطاع الزراعة وأصوله، والأهم بالعاملين فيه.[1] وإلى جانب دورها المحوري للشعب السوري، شكّلت الزراعة انعكاساً لهَرَمية السلطة والصراع بين عناصر الطبقة السياسية في سوريا. ومرّ قطاع الزراعة خلال العقدَين الماضيين بتطورات تعتبر اليوم من العوامل السياسية والاقتصادية التي أدت إلى اندلاع النزاع في سوريا.[2]

بناءً على ذلك، من الأهمية بمكان التمييز بين الأضرار التي لحقت بالإنتاج الزراعي بسبب العنف بعد آذار ٢٠١١ من جهة، وتلك التي لحقت به نتيجة تدهور دور الزراعة في الاقتصاد الوطني قبل النزاع وما أدى إليه ذلك من مظالم ساهمت في انفجار الموقف من جهة أخرى. ولهذا التمييز أهمية في تقييم وضع القطاع الزراعي الحالي بدقة ولتجنّب إلحاق المزيد من الأضرار من قبل الأطراف الفاعلة والراغبة في التدخل لمصلحة السكان ولكنها غير مُدرِكة للديناميات السياسية الراهنة والمستمرة بالتأثير سلباً على الأمن الغذائي. لا بد لمن يحاول إجراء مثل هذا التقييم أن يأخذ في الحسبان المشهد السياسي المتغير ودور القوى السياسية التقليدية وظهور قوى سياسية جديدة والتفاعل فيما بين هذه الجهات جميعاً في القطاع.

تبيّن هذه الورقة، بدايةً، النظام السياسي الذي حاول صياغة بنية جديدة للنشاط الاقتصادي والاجتماعي في العقد السابق لانتفاضة عام ٢٠١١، مع التركيز على أبرز السياسات والجهات والقوى الفاعلة، وكيفية تطورها أثناء النزاع الحالي. ثم تستكشف الورقة آثار النزاع والسياسات الحالية على الريف السوري، وأثر صعود قوى جديدة على الاقتصاد الزراعي الريفي.

تستند الورقة إلى مقابلات منظمة وغير منظمة مع ثلاثة وعشرين شخصاً بينهم أربعة عشر منتجاً زراعياً يقيمون في سوريا، وسبعة موظفين حكوميين (خمسة منهم موظفون سابقون يقيمون حالياً خارج البلاد) وخبير اقتصادي واحد. أُجريت هذه المقابلات كافة، إلا مقابلة واحدة، عبر تطبيق واتساب بين كانون الأول/ديسمبر ٢٠١٨ وتموز ٢٠١٩. ورغم أن الأشخاص الذين أُجريت معهم المقابلات جميعاً من حماة أو حمص، لا ينبغي اعتبار شهاداتهم ممثلة لوضع منطقة أو مجموعة محددة. تستند الورقة أيضاً إلى مراجعة للتقارير المتعلقة بموضوع الورقة من الجهات الدولية والمحلية.

الجزء الأول: تدهور الإنتاج الزراعي السوري في العقد السابق للنزاع

القطاع الزراعي في "اقتصاد السوق الاجتماعي"

بعد استيلاء حزب البعث على السلطة عام ١٩٦٣، اتّبع الحزب سياسات داعمة للزراعة، منها الإصلاح الزراعي ودعم المنتجين الزراعيين وتمثيلهم في الدولة، وقد مثّلت هذه السياسات انعكاساً لأصول الحزب الريفية.[3] وخلال حكم حافظ الأسد (١٩٧٠-٢٠٠٠)، تمحور النظام السياسي في الريف السوري حول هذه السياسات، التي كانت تهدف إلى حماية المنتجين الزراعيين الريفيين مقابل ولائهم للسلطة. أولاً، عززت الحكومة الاكتفاء الذاتي عبر إنتاج محاصيل "استراتيجية" منتقاة، ومنها القمح الذي كان يحظى بأهمية سياسية واقتصادية كبيرة. ثانياً، خُصِّصت محاصيل استراتيجية أخرى، مثل القطن والتبغ، للتصدير بهدف اجتذاب العملات الأجنبية. ولهذا الغرض حددت الحكومة مساحات من الحيازات الزراعية[4] مكرسة لإنتاج وتسويق هذه المحاصيل، كما قدمت الدعم المالي لمستلزمات زراعتها واحتكرت أسواقها. ثالثاً، خصّصت الإدارة الحكومية البيروقراطية مبالغ كبيرة لدعم الإنتاج الزراعي على نحو يعكس بنية السلطة لدى النظام، التي تفضّل مصلحة أصحاب النفوذ والعلاقات مع السياسيين على احتياجات الإنتاج الزراعي. أخيراً، ونتيجة تلقيه دعماً حكومياً كبيراً، تمكّن القطاع الزراعي من توفير فرص عمل منخفضة الأجر لعدد كبير من العمال الموسميين وذوي المهارات المتدنية في أفقر المناطق في سوريا، ما خلق شبكة أمان اجتماعي وأتاح لممثلي الحكومة مجالاً لتقديم الرعاية لسكّان المناطق التي يتمركزون فيها. عندما ورث بشار الأسد السلطة عام ٢٠٠٠، تعهّد بإقامة نظام سياسي جديد قائم على الإصلاح الاقتصادي. وقد تولّى عمليات الإصلاح هذه عصام الزعيم، رئيس هيئة التخطيط (٢٠٠٠-٢٠٠٣)، قبل أن يخلفه عبد الله الدردري[5] الذي روّج لنموذج "اقتصاد السوق الاجتماعي".

تبنّت الحكومة هذا النموذج رسمياً عام ٢٠٠٥ من خلال الخطة الخمسية العاشرة للفترة من عام ٢٠٠٦ إلى ٢٠١٠.[6] تمثّلت أهداف الخطة في تحقيق معدلات نمو عالية عبر زيادة الاستثمارات الخاصة والأجنبية في القطاعات الرابحة (الاتصالات والعقارات والقطاع المصرفي والسياحة والتجارة الخارجية والصناعة ذات القيمة المضافة المرتفعة) وتخفيف النفقات الحكومية عبر خفض الدعم والاستثمار العام. وكان من المتوقع أن تحدّ معدلات النمو المرتفعة من الآثار الاجتماعية السلبية لعملية الانفتاح الاقتصادي والخصخصة، وأن تعطي مبرراً سياسياً للتغييرات المترتبة عليها.[7]

مناصرو اقتصاد السوق اعتبروا الدعم الحكومي للقطاع الزراعي عبئاً على الإنفاق العام (حيث قيل إن كلفته بلغت نحو ٤ في المئة من الناتج المحلي الإجمالي)، ورأوا في الدعم تدخلاً مفرطاً من الدولة وتقويضاً للمنافسة. وربط ملخص الخطة الخمسية العاشرة الزراعة بعوامل سلبية في الاقتصاد السوري: معدلات نمو منخفضة ومستوى إنتاج متقلب واستهلاك كبير للطاقة وغيرها من الموارد الطبيعية مثل المياه.

وافق الخبراء السوريون والدوليون على هذا النقد للسياسات الزراعية القديمة القائمة على الدعم الحكومي. في ورقة حول السياسات صادرة عام ٢٠٠٨،[8] ذكر البنك الدولي أن سياسات حماية الإنتاج المحلي والاكتفاء الذاتي غير مستدامة، وأن ارتفاع نسبة التوظيف في القطاع الزراعي يعود إلى انعدام فرص النمو في قطاعات أخرى. وأشار البنك الدولي إلى إمكانية تحقيق الأمن الغذائي من دون إنتاج الحبوب محلياً، وذلك في حال ارتفاع معدلات النمو بحيث تسمح باستيراد الحبوب لتلبية الطلب على استهلاكها، كما يمكن لمعدلات النمو المرتفعة أن تحقق عائدات يمكن تخصيصها لخلق فرص العمل وبرامج الضمان الاجتماعي. ولكن ورقة البنك الدولي أشارت في الوقت نفسه إلى المخاطرة السياسية الكبيرة التي ينطوي عليها التغيير المفاجئ وحثّت على التغيير التدريجي. تمثلت الخطوات التي دعا إليها البنك الدولي في خفض المحاصيل المعتمدة على المياه، وبالتالي خفض الدعم على الوقود، وحماية أسعار السوق بالنسبة للمنتجين عوضاً عن دعم مستلزمات الإنتاج الزراعي وكلفه، وخصخصة القطاع المالي والقروض، وتشجيع المحاصيل المرتفعة القيمة للتداول التجاري (الفواكه والخضروات)، وتعزيز سلسلة الإمداد الضرورية، وخفض رسوم الاستيراد، وتوقيع اتفاقيات تجارية لتمكين التجارة، وتشجيع الاستثمار، وخلق فرص العمل في المناطق الريفية للشباب في قطاعات أخرى غير الزراعة.

وجد مناصرو اقتصاد السوق حلفاءهم الطبيعيين في الطبقة الجديدة من رجال الأعمال من أبناء المدن، الذين كان بعضهم من محاسيب الأسد، وينحدر العديد منهم من الجيل الثاني من الدائرة المقربة من حافظ الأسد، مثل رامي مخلوف وفراس طلاس.[9] وجد رجال الأعمال هؤلاء في اقتصاد السوق فرصة لزيادة ثرواتهم ونفوذهم عبر التجارة والخدمات، وعبر أداء دور الوسيط الذي يمكّن الشركات الدولية من العمل في سوريا مقابل حصص من الأرباح. بذلك، غرست هذه الطبقة من رجال الأعمال جذورها في الأسواق الدولية وفي مركز صناعة القرار في دمشق.[10] لم تُبدِ هذه المجموعة اهتماماً بالإنتاج الزراعي الذي يتطلب استثمار رأسمال كبير بأرباح غير مضمونة ودورة إنتاج بطيئة. كذلك اصطدمت مصالح المجموعة، على مستوى السياسات، بالحرس القديم ومناصري حماية الإنتاج المحلي، والذين رغبوا في الحفاظ على الوضع القائم، بما فيه السياسات التجارية القديمة. تجلى النزاع في المؤتمر الوطني العاشر لحزب البعث عام ٢٠٠٥، الذي قام خلاله الأسد بإبعاد القيادة البعثية القديمة والتأكيد بوضوح على أولوية الإصلاحات الاقتصادية لديه.[11] أدى هذا التحول السياسي في رأس هرم حزب البعث إلى تعمق الفجوة بين القيادة و"جذورها الريفية"، وإلى إضعاف التمثيل السياسي للسكان العاملين في الزراعة في دوائر صنع القرار.

عام ٢٠٠٦، بدأ القطاع الزراعي بالتدهور (رسم بياني١)، حيث انخفض معدل نموه إلى ١,٣ في المئة (٢٠٠٥-٢٠٠٩). في المقابل، نما قطاع الخدمات السياحية بمعدل ١٤ في المئة، بما يشمل زيادة عدد السياح بنسبة ١٢ في المئة سنوياً، في حين نما القطاع الصناعي بمعدل ١٢,٤ في المئة.[12] عام ٢٠٠٨، بلغ عدد الشركات الجديدة التي أسسها مستثمرون أجانب ١٧٨ شركة، خمس منها فقط عملت في القطاع الزراعي (اثنتان في دمشق وثلاث في درعا)، في حين عملت ٢٨ منها مثلاً في التجارة.[13]

ولعل أبرز المؤشرات على تدهور الزراعة هو انخفاض قوة العمل فيها. فقد صرّح مسؤولون حكوميون بأن ٦٠٠ ألف عامل، أي ما يعادل ٤٤ في المئة من قوة العمل في قطاع الزراعة، انتقلوا إلى قطاعات أخرى بين ٢٠٠٥ و٢٠٠٨. لم يبيّن المسؤولون القطاعات التي انتقل إليها هؤلاء العمال، أو ما إذا كانت تلك القطاعات أكثر إنتاجية من الزراعة.[14] في بعض الحالات، قد يكون العمّال المذكورون خسروا عملهم ببساطة.

الرسم بياني ١: أثر خفض الدعم على الإنتاج الزراعي

 

المصدر: المؤلف، المجموعة الإحصائية من المكتب المركزي للإحصاء[15]

يظهر رسم بياني ١ بداية أثر خفض الدعم الحكومي على مستلزمات الإنتاج الزراعي عام ٢٠٠٨، العام الثالث من فترة تنفيذ الخطة الخمسية العاشرة. في العام نفسه، تسبب تراجع دعم المازوت (الديزل) بصدمة في السوق السورية كلها. كذلك انخفض دعم المبيدات الحشرية بدءاً من عام ٢٠٠٥، وتوقف نهائياً عام ٢٠١٠. في الوقت نفسه، تواصل انخفاض الإنتاج الزراعي المحلي في كل سنة من سنوات تنفيذ الخطة الخمسية العاشرة، عدا عام ٢٠٠٩، ولكنه عاد ليرتفع عام ٢٠١١. ورغم محدودية التغيرات إلا أنها تُظهر بوضوح مستوى سيطرة الحكومة على القطاع. ورغم انتشار الجفاف في سوريا من ٢٠٠٧ إلى ٢٠٠٩، لم يُعدّل صنّاع السياسات استراتيجية خفض الدعم.

يظهر رسم بياني٢ بشكل أكبر الأثر السلبي للخطة الخمسية العاشرة على الزراعة، وانعدام النمو في القطاع، وتراجع مساحة الأراضي المروية بالمياه الجوفية (أي الأرض التي يتطلب ريّها وقوداً لضخ المياه)، وهو ما تأثر بشحّ الموارد المائية.

الرسم بياني ٢: أثر الخطة الخمسية العاشرة على حصة الزراعة من الناتج المحلي الإجمالي وسوق العمل

المصدر: المؤلف، المجموعة الإحصائية من المكتب المركزي للإحصاء[16]

بدا صُنّاع القرار عازمين على مواصلة العمل برؤيتهم نفسها وتقبّل تبعاتها على الإنتاج الزراعي. لكنهم في الوقت نفسه فشلوا في الاستجابة للتغيرات الميدانية، مثل الجفاف، التي كان من شأنها أن تدفع إلى مساعدة المنتجين الزراعيين وزيادة الإنفاق العام. عزا الرئيس الأسد لاحقاً تعثُّر الإصلاحات الاقتصادية إلى الجفاف، ولكن آثار الجفاف تحديداً في تلك المرحلة تفاقمت بسبب إجراءات التقشف المتصلّبة.

أزمة الحبوب عام ٢٠٠٨ نموذجاً عن السياسات الزراعية الحكومية الجديدة

طيلة عقود، احتلت الحبوب – لاسيما القمح للخبز والشعير للعلف – موقعاً أساسياً في التخطيط الاستراتيجي الحكومي لتحقيق الاكتفاء الذاتي. تلقى المنتجون الزراعيون دعماً سخياً من الحكومة، ما عرّضهم لاحقاً لمضاعفات التقشف، حيث تخلّت الحكومة عن سياسة الاكتفاء الذاتي وأنهت التزامها بشراء المحاصيل كاملة.

بين ٢٠٠٧ و٢٠٠٩، ألحقت شهور الجفاف وسياسات خفض الدعم الحكومي أضراراً بالمزارعين والمستهلكين. وعُزِي اندلاع النزاع عام ٢٠١١ جزئياً إلى ضعف استجابة الحكومة للأزمة عام ٢٠٠٩ و٢٠١٠. تتفاوت تقديرات جفاف عام ٢٠٠٨ وآثاره على البلاد تفاوتاً كبيراً،[17] ولكن المؤكد أن إنتاج الحبوب تراجع على نحو كبير بسبب انخفاض معدل هطول الأمطار في ربيع ٢٠٠٨، في موسم نضج السنابل، كما أدى قرار الحكومة برفع الدعم عن المازوت إلى نقص في الوقود ورفع الكلفة وتعطيل رِيّ الأراضي قبل الحصاد.

عام ٢٠٠٧، كان محصول القمح وفيراً، حيث تجاوز إجمالي الإنتاج ٤ ملايين طن. إلا أن الحكومة لم تشترِ – من خلال السورية للحبوب والمديرية العامة للمطاحن – إلا ثلث المحصول، وفق صحيفة الثورة.[18] برّرت الحكومة ذلك بتدنّي جودة المحصول نتيجة الآفات التي أصابته.[19] وتشير التقارير إلى أن العملية المُتّبعة لتحديد جودة المحاصيل، وبالتالي اتخاذ القرار بشأن شرائها، كانت مرتجَلة وعشوائية. حيث اشتكى المزارعون من غياب الضوابط والمعايير والاعتماد على المعاينة البشرية المباشرة لعيّنات من المحصول.[20]

الرسم بياني ٣: إنتاج الحبوب خلال فترة الجفاف (بالألف طن)

 

المصدر: المؤلف، المجموعة الإحصائية من المكتب المركزي للإحصاء

وبحسب مشرف كان يعمل حينها في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي،[21] كانت المؤسسة العامة لتجارة وتخزين وتصنيع الحبوب (السورية للحبوب) تمتلك مخزوناً كاملاً من القمح يفوق قدرتها على التخزين بالشكل المناسب، كما لحقت العدوى الفطرية بمحصول القمح الاستراتيجي.[22] وتوافقت التقارير بشأن آثار العدوى الفطرية على محصول القمح عام ٢٠٠٦ و٢٠٠٧ مع خفض توزيع المبيدات الحشرية والأسمدة المدعومة (الرسم بياني ١)، وكلاهما بالغ الأهمية لمقاومة المحاصيل للأمراض. أظهرت السورية للحبوب تباطؤاً، وربما عجزاً، في الضغط لاتخاذ قرار بتصدير فائض القمح أو زيادة سعة التخزين والدعم التقني، وكان لهذا أثر سلبي على المنتجين الزراعيين فاقم من آثار الجفاف.[23]

نجم الاختناق عن غياب سوق خاصة جاهزة لاستيعاب هذه الكميات من الحبوب، فيما لم يكن التصدير مسموحاً، ما أدى إلى اتّساع المتاجرة بالقمح في السوق السوداء، وانخفاض الأسعار إلى مستواها الأدنى، ليتراوح سعر الكيلوغرام بين ثماني وعشر ليرات سورية، وقد خُصص هذا القمح بشكل رئيسي للعلف وربما للتهريب. عرضت الحكومة لاحقاً شراء المحاصيل بسعر أدنى بلغ ٥ ليرات للكيلوغرام (مقارنة بـ١٢,٣٠ للقمح القاسي و١١,٣٠ للقمح الطري عام ٢٠٠٦). وشجّع انخفاض السعر المزارعين على البيع في السوق السوداء. رسميا حملت الحكومة المزارعين جزءاً من المسؤولية، حيث اتهمتهم وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي بتفضيل البيع في السوق السوداء بسعر أعلى.[24]

يبيّن الرسم بياني ٤ تراجع استغلال الأراضي للزراعة بعد موسم ٢٠٠٦/٢٠٠٧ وارتفاع نسبة الأرض البور. والواقع أن المزارعين فوّتوا المواسم ولم يزرعوا أية محاصيل، ولا يبدو أن الموارد المائية كانت عاملاً حاسماً في هذا القرار، حيث تراجع استغلال الأراضي المروية والأراضي البعل على حد سواء. قرار المزارعين بالتخلي عن الإنتاج في الموسم التالي لموسم ٢٠٠٦/٢٠٠٧، الذي كان محصوله وفيراً، نجم عن رفض الحكومة شراء الحبوب تلك السنة، ما تُرجم على أنه تراجع من جانب الحكومة عن حماية إنتاج الحبوب المحلي وخفضها الدعم للقطاع الزراعي.

الرسم بياني ٤: استغلال الأراضي الزراعية خلال فترة الجفاف (بالألف هكتار)

 

المصدر: المؤلف، المجموعة الإحصائية، المكتب المركزي للإحصاء

ويبيّن الرسم بياني ٥ أن مساحة زراعة القمح انخفضت بمقدار ١٨٠,٨٠٠ هكتار بين عامي ٢٠٠٧ و٢٠٠٨، في حين ازداد مجموع مساحة الأرض البور وزراعة الشعير بمقدار ٢٠٨٩٠٠ هكتار في الفترة نفسها. بناءً على محصول ١,٤ طن للهكتار، أدت زيادة المساحة المزروعة إلى انخفاض بنحو ربع مليون طن في المحصول، أي ما يعادل ١١ في المئة من محصول العام الإجمالي. ويُرجَّح أن المنتجين الزراعيين اتخذوا قراراً بالتحول إلى الشعير والذرة، حيث كانت السلعتان تُباعان في السوق المحلية مباشرة، على عكس القمح الذي كانت تحتكره الحكومة.

الرسم بياني ٥: مساحة الأرض حسب المحصول خلال فترة الجفاف (بالألف هكتار)

 

المصدر: المؤلف، المجموعة الإحصائية للسنوات المعنية من المكتب المركزي للإحصاء

عندما اتّضح الشح الشديد لمحصول القمح عام ٢٠٠٨، حدثت بلبلة في مؤتمر الحبوب السنوي في درعا،[25] حيث نفت الجهات الحكومية المسؤولية عن الفشل في تخزين ما يكفي من القمح عام ٢٠٠٧. على وجه الخصوص، عزا المدير العام لمديرية المطاحن انخفاض كمية القمح التي اشترتها الحكومة عام ٢٠٠٧ إلى تفضيل المزارعين البيع في السوق السوداء.[26] إلا أن التوصيات تضمنت ثلاثة إجراءات أساسية لمعالجة الأزمة: شراء المحاصيل كاملة بصرف النظر عن جودتها، وأتمتة عملية فحص عينات المحصول، والتسعير بما يتناسب مع كلفة الإنتاج الحقيقية مع الأخذ في الاعتبار ارتفاع أسعار الوقود. وكانت هذه التوصيات الثلاث نقيضاً للإجراءات الحكومية في العام السابق.

كشفت تفاصيل أزمة الحبوب عن تنفيذ صارم ودوغمائي لإجراءات التقشف، وعن انعدام جاهزية الحكومة، كما بيّنت التهميش المضطرد لاقتصاديات الريف في تفكير صناع القرار، وأخيراً فقد أظهرت غياب النقاش العام حول السياسات الجديدة، والطبيعة النخبوية لعملية صنع القرار.

الجزء الثاني: الإصلاح في حالة الحرب

في أول خطاب له بعد بدء المظاهرات في آذار ٢٠١١،[27] عاد الرئيس السوري بشار الأسد إلى ذكر قضية الجفاف، وعزا تأخر الإصلاحات الاقتصادية إلى "أربع سنوات من الجفاف"، مكرراً تهرّب الحكومة من المسؤولية على إثر أزمة الحبوب، وليس من المستبعد أنه كان يجهل أثر الاصلاحات السلبي عليها. في الخطاب نفسه، شجب الأسد أيضاً الضغوط الدولية المستمرة على سوريا.

عندما تحولت الاحتجاجات إلى انتفاضة شعبية عمّت البلاد، وفي إطار سعيهم لتفسير الانتفاضة وجذورها، ركز الأكاديميون والصحفيون – ومعظمهم مقيم خارج البلاد – على سياسة اقتصاد السوق الاجتماعي، وتعامل الحكومة مع الجفاف،[28] وظهور طبقة جديدة من محاسيب الاقتصاد النيوليبرالي.[29] الأغلبية العظمى من هذه القراءات للإصلاح في سوريا تضمنت انتقادات للنظام، وأتت من مؤسسات من خارج سوريا لا تمتلك سبلاً للتأثير على المؤسسات الحكومية السورية أو على النظام نفسه.

داخل البلاد، تمترس النظام السوري وراء سياساته وتحدى دعوات التغيير. تصرّفت الحكومة كأن شيئاً لم يكن، ورفض مسؤولو النظام الاعتراف بأن البلاد في "حالة حرب" حتى حزيران ٢٠١٢،[30] وحتى بعد ذلك الاعتراف، لم يُجرِ المسؤولون أي تغيير في العناصر الأساسية لسياسات ما قبل النزاع، بما في ذلك السياسات الزراعية. خلال النزاع، استمرت سياسة خفض الدعم على مستلزمات الإنتاج الزراعي، واستبدال ذلك بدعم الأسعار والناتج.[31] يمكن تحليل هذه السياسة بالنظر إلى مؤسستين حكوميتين أساسيتين: المصرف الزراعي التعاوني، وصندوق دعم الإنتاج الزراعي.[32]

المصرف الزراعي التعاوني

تأسس المصرف الزراعي التعاوني عام ١٨٨٨، وهو أقدم مصرف ما زال مستمراً بالعمل في سوريا. ويمثل المصرف أداة الحكومة الرئيسية لتنفيذ الخطة السنوية للإنتاج الزراعي، ويتولى التعاملات المالية بين الحكومة والمنتجين الزراعيين في القطاع العام والقطاع الخاص، بما يشمل عمليات البيع والشراء والقروض. على سبيل المثال، ما زال استيراد وتوزيع مستلزمات الإنتاج الزراعي غير المدعومة (مثل علف المواشي وأدويتها) يتم عبر المصرف الزراعي التعاوني. وعندما لا يتمكّن المزارعون من تسديد ثمنها نقداً، يقدم المصرف لهم "قرضاً" بقيمة المشتريات، على أن يسدده المزارعون من عائدات إنتاجهم الزراعي إذا اشترت الحكومة محاصيلهم، وهو ما يتم عبر المصرف الزراعي التعاوني أيضاً. بعبارة أخرى، ليس المصرف الزراعي التعاوني مجرد مؤسسة مالية، بل هو أكثر من ذلك بكثير. ويمتلك المصرف أصولاً عديدة بينها مستودعات لتخزين مستلزمات الإنتاج التي ستوزَّع لاحقاً على المزارعين. ومن الأمثلة أيضاً استيراد وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي للمواشي:[33] يمكن للمزارع أن يتقدم بطلب للحصول على نصاب محدد من المواشي من المصرف الزراعي التعاوني، يُقدَّم على شكل قرض من المصرف. ويطالب المصرف بضمان القروض بملكيات زراعية – أراضٍ أو مزارع دواجن مثلاً – بالإضافة إلى كفيل شخصي يكون في العادة موظفاً حكومياً. إذا عجز المزارع عن تسديد أقساط القرض أو القرض كاملاً، يخسر حقه في استغلال الأصول التي قدمها كضمانات للقرض، كما يخسر المَدين للمصرف الزراعي التعاوني الحق في التعامل مع القطاع العام، سواء لبيع محصوله أم للحصول على الحوافز والدعم.

عام ٢٠١١، بلغت نسبة القروض الممنوحة للمزارعين وشركات القطاع الخاص من إجمالي القروض التي منحها المصرف الزراعي التعاوني ٢٣ في المئة (الرسم بياني ٦). انخفضت النسبة إلى ٢ في المئة عام ٢٠١٤، وإلى ٠,٠٠٢ في المئة عام ٢٠١٦، ما يشير إلى أن المصرف كفّ عن إقراض المنتجين الزراعيين بشكل شبه نهائي. في الواقع، أوقف المصرف القروض المتوسطة والكبيرة للمنتجين الزراعيين من القطاع الخاص منذ عام ٢٠١٣. عام ٢٠١٧، استأنف المصرف تقديم القروض المتوسطة لمزارعي البيوت البلاستيكية في المناطق الساحلية حصراً.[34] يبيّن الرسم بياني ٦ هذا الانخفاض الحاد في الإقراض والدعم الحكوميين للمنتجين الزراعيين من القطاع الخاص، باستثناء مربّي المواشي والدواجن. وعوضاً عن تقديم القروض أو الدعم للمنتجين الزراعيين، موّل المصرف المؤسسات العامة التي تشتري المحاصيل (الحبوب والقطن والسكر) في إطار سياسة تحويل الدعم من مستلزمات الإنتاج إلى دعم أسعار المنتجات. القروض في القطاع العام تُمنَح، بشكل أساسي، لثلاث مؤسسات: المؤسسة العامة لتجارة وتخزين وتصنيع الحبوب، والمؤسسة العامة لحلج وتسويق الأقطان، والمؤسسة العامة لإكثار البذار.[35]

الرسم بياني ٦: قروض المصرف الزراعي التعاوني حسب القطاع (مليون ليرة سورية) بما في ذلك دعم مستلزمات الإنتاج الزراعي وغيرها من المستلزمات المورَّدة عبر فروع المصرف الزراعي التعاوني

 

المصدر: المؤلف، المجموعة الإحصائية من المكتب المركزي للإحصاء

تشير النسبة المرتفعة للقروض المتعثرة إلى استمرار سياسة الحكومة بالتحول من دعم مستلزمات الإنتاج إلى تعويض خسائر الإنتاج. إن هذا التعويض، إلى جانب تدهور الإنتاج والأسواق وصعوبة الوصول إلى السوق بسبب النزاع وازدياد الكلف نتيجة هيمنة اقتصاد الحرب وندرة الموارد، تسبب بعجز شبه تام عن الحصول على المال ومستلزمات الإنتاج الزراعي بالنسبة للمنتجين الزراعيين في القطاع الخاص، ولا سيما في المناطق المعرضة لكوارث طبيعية أو لآثار النزاع.

عام ٢٠١٦، بلغ حجم القروض المقدمة للقطاع الخاص نحو ٠,١ في المئة من حجمها عام ٢٠١٠، ووصل عدد الأشخاص غير القادرين على تسديد قروضهم إلى ٦٠٠ ألف عام ٢٠١٤، أي ما يقارب عدد أصحاب الحيازات الزراعية عام ٢٠٠٤.[36] وعام ٢٠١٨، بلغت نسبة غرامات التأخير نحو ٦٠ في المئة من إجمالي القروض غير المُسدّدة، نتيجة تراكم الغرامات على مدى سنوات من الأقساط غير المدفوعة. في كانون الأول/ديسمبر ٢٠١٨، أصدر الرئيس الأسد المرسوم الجمهوري رقم ٤٦/٢٠١٨ الذي أعاد جدولة الديون على قروض المصرف الزراعي التعاوني للمزارعين الأفراد.[37] في هذه المرحلة، بلغ حجم القروض غير المسددة ٥٩,٥ مليار ليرة سورية (١١٨,٥ مليون دولار)،[38] وبلغ مجموع الغرامات ٣٦,٧ مليار ليرة (٧٣ مليون دولار)، وكانت الغرامات مفروضة على نصف مليون منتج زراعي. وقد سجل إحصاء عام ٢٠٠٤ ٦٦٠,٣٧١ صاحب حيازة،[39] ما يشير إلى أن أكثر من ٧٥ في المئة منهم كانوا مَدينين عام ٢٠١٨.

صندوق دعم الإنتاج الزراعي

تأسس صندوق دعم الإنتاج الزراعي عام ٢٠٠٨ في إطار الخطة الخمسية العاشرة.[40] تمثلت المهمة الأصلية للصندوق في تيسير دعم الإنتاج الزراعي، واتّباع منظومة دعم محددة الأهداف تحل محل نظرية المحاصيل الاستراتيجية القديمة. كان مقرراً أن يقوم الصندوق بتحديد ودعم وشراء المحاصيل حسب العرض والطلب في السوق، وأن يكون أداة الحكومة لوضع تشريعات السوق[41] وتحديد احتياجات المنتجين الزراعيين وتلبيتها.

بدءاً من عام ٢٠٠٩، ركز الصندوق في دعمه على دعم أسعار المحاصيل التي تشتريها الحكومة. لدى حساب أسعار الشراء، يأخذ الصندوق في الحسبان كلفة السوق الحقيقية للوقود والأسعار في الأسواق المجاورة. ولكن بعد عام ٢٠١٠، خُفِّضت ميزانية الصندوق إلى ١٠ مليارات ليرة سورية، أي ما يعادل في حينه ٢٠٠ مليون دولار. وبحلول عام ٢٠١٨، ونتيجة التضخم، أصبحت قيمة الميزانية نفسها أقل من عُشر قيمتها الأولى بالدولار، أي نحو ٢٠ مليون دولار. ركّز الصندوق بشكل رئيسي على دعم سعر البذور المُحسّنة التي تُباع للمنتجين الزراعيين.[42]

لم تحظَ فكرة صندوق دعم الإنتاج الزراعي بالكثير من الزخم لعدة أسباب، منها تقلّص المساحة التي تسيطر عليها الحكومة وتعمل ضمنها في ذروة النزاع، وانكماش الاقتصاد بشكل عام، وتداخل عمل الصندوق مع مؤسسات عامة أقدم منه وأكثر رسوخاً مثل مؤسسة تجارة الحبوب ومؤسسة الأقطان ومؤسسة إكثار البذور، وتتمتع الأخيرة بموقع أفضل لتحديد الأسعار وإجراء عمليات الشراء. من جهة أخرى، كان المصرف الزراعي التعاوني هو من ينفّذ التعاملات المتعلقة بالقطاع العام منذ عقود، وكان يمتلك فروعاً وشبكات في مختلف أنحاء البلاد.

حروب القمح خلال النزاع

بين عامَي ٢٠١١ و٢٠١٧، توصلت التقديرات إلى انخفاض إنتاج القمح المحلي إلى النصف (الرسم بياني ٧).[43] وفي العام نفسه، اشترت المؤسسة العامة لتجارة الحبوب ٣٢٥ طناً فقط من القمح من أصل ناتج إجمالي قُدِّر بنحو مليون و٨٥٠ ألف طن، أي أنها اشترت ما يعادل ١٧ في المئة من الإنتاج الإجمالي مقارنة بـ٦٤ في المئة عام ٢٠١١. هذه الأرقام تشير إلى أن الحكومة لم تعد تحتكر سوق القمح، وذلك نتيجة المعابر الحدودية غير الرسمية ونشوء أسواق محلية جديدة تتنافس مع المؤسسات العامة في شراء القمح من المنتجين الزراعيين.

بالتوازي مع ذلك، ارتفع معدل الاستيراد، ربما ليس إلى الدرجة التي ادّعتها وسائل الإعلام، ولكن بما يتجاوز ٥٠ في المئة من إجمالي مشتريات مؤسسة الحبوب بدءاً من عام ٢٠١٣، وبلغت نحو ٤٠ في المئة عام ٢٠١٧. وفي تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠١٨، أعلن وزير النقل عن اتفاقية مبدئية مع نظيره الروسي لتأسيس مركز توزيع للقمح الروسي في سوريا،[44] وعن خطط لتوسيع استطاعة التخزين والنقل في الموانئ السورية في إطار اتفاقية ميناء طرطوس، الذي تولت إدارته شركة روسية. عام ٢٠١٩، أعلنت الحكومة السورية عن استعدادها لشراء ما يصل إلى مليونَي طن من القمح المحلي.[45] في الوقت نفسه، أكد وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك أن الحكومة ستواصل استيراد ما يصل إلى ٦٠٠ ألف طن من القمح الروسي حرصاً على المخزون الاستراتيجي،[46] ورفضت دعوات لتأجيل الاستيراد إلى ما بعد شراء المحاصيل المحلية بالكامل.

قد تبدو محاولة الحكومة شراء مليونَي طن شديدة التفاؤل في ضوء الأرقام للسنوات الخمس الماضية (الرسم بياني ٧)، ولكنها تقوم على ثلاثة اعتبارات: أولاً استعادتها السيطرة على أراضٍ واسعة من البلاد؛ وثانياً رفعها سعر شراء القمح إلى ٤٢٢ دولار للطن،[47] أي ما يزيد على ضعف السعر الدولي البالغ ٢٠٧ دولار للطن،[48] الأمر الذي كان منتظراً أن يقنع المزارعين بالبيع لتجار السوق؛ وثالثاً، الأمطار الوفيرة عام ٢٠١٩ وما وعدت به من محصول كبير بخلاف السنوات الماضية. في أيلول ٢٠١٩، قُدِّر إنتاج القمح المتوقع بنحو ٢.٢ مليون طن.[49]

الرسم بياني ٧: تقديرات كميات القمح (بالألف طن) المنتجة محلياً والمشتراة محلياً وتلك المستوردة من قبل المؤسسة العامة لتجارة الحبوب

 

المصدر: المؤلف، المجموعة الإحصائية من المكتب المركزي للإحصاء، وتصريحات إعلامية لمسؤولي مؤسسة الحبوب ومنظمة الغذاء والزراعة/برنامج الغذاء العالمي[50]

كما يبين الرسم بياني ٨، تدفع مؤسسة تجارة الحبوب للمزارعين أسعاراً أعلى من أسعار السوق الدولية. إلا أن مساعيها لشراء القمح حققت نتائج متفاوتة. فعلى سبيل المثال، نجحت المؤسسة في شراء كميات كبيرة في درعا، حيث استفادت من عوامل متنوعة، منها عدم توفر المطاحن في مناطق المعارضة. أما في الشمال الشرقي، دفعت الإدارة الذاتية بقيادة التي يقودها الأكراد أسعاراً مماثلة للسعر الذي دفعته الحكومة (١٤٢ ألف ليرة سورية للطن عام ٢٠١٧، و١٧٥ ألف ليرة سورية للطن عام ٢٠١٨) ومارست ضغوطاً على المزارعين شملت مضايقتهم بشكل مباشر. كذلك كانت مديونية المزارعين للمصرف التعاوني الزراعي سبباً آخر لتجنّبهم البيع للحكومة.

الرسم بياني ٨: أسعار القمح المنتج محلياً مقارنة بالمستورد (دولار/طن)

 

المصدر: المؤلف، المجموعة الإحصائية من المكتب المركزي للإحصاء وتصريحات مسؤولين من مؤسسة تجارة الحبوب[51]

إلا أن الحبوب، ولا سيما القمح، كانت عرضة للهجوم أيضاً. ففي ٢٠١٩، اشتعلت نيران في حقول الحبوب في مختلف أنحاء البلاد، وانتشرت تقارير حول حرائق متعمدة.[52] اتُّهم نظام الأسد باستخدام الذخائر الحارقة لإضرام حقول الحبوب في إدلب، وادّعى تنظيم الدولة الإسلامية أنه أشعل حرائق كبيرة في شمال شرق سوريا، ووردت تقارير حول حوادث مفردة في مختلف مناطق إنتاج القمح الخاضعة لسيطرة الحكومة.[53]

يتم التنافس على القمح السوري من خلال الأسعار والتحكم في الأراضي والطرق والمعابر الحدودية. في ظل الظروف الحالية، من المستحيل تقريباً على المزارعين السوريين العمل من دون رعاية حكام الأمر الواقع، وتسويق منتجاتهم بأسعار منافسة في أسواق حرة "محايدة"، وهو ما يجعل إنتاج القمح وتسويقه أكثر هشاشة في وجه ديناميات النزاع.

رغم الدعم الكبير وزيادة الاستيراد من حليفها الروسي، يبدو أن الحكومة السورية تجد صعوبة كبيرة في تطوير سلسلة إمداد صالحة في السوقَين المحلية والدولية. على المستوى المحلي، خسرت الحكومة احتكارها للسوق وتراجعت سيادتها وتلاشت قدرتها على التأثير على المنتجين الزراعيين من خلال الضغوط والحوافز. على المستوى الدولي، تحد العقوبات وتشريعات مكافحة الإرهاب من قدرة الحكومة على عقد الصفقات، حيث تطال العقوبات الكثير من التجار والشركات التي تمثل الحكومة في الصفقات.

انخفض الإنتاج الزراعي عموماً إلى النصف. رغم المحصول الجيد نسبياً عام ٢٠١٩، ما زال حجم إنتاج القمح أدنى بنسبة ٣٠ في المئة مما كان عليه عام ٢٠١٠.[54] كما انخفض إنتاج الشعير إلى النصف. أما بالنسبة للمواشي، فقد انخفض إنتاج الأبقار والأغنام بنسبة ٤٠ في المئة بين ٢٠١٠ و٢٠١٨. وتقول التقديرات إن ٩٠ في المئة من منتجي الدواجن هجروا هذا القطاع بحلول عام ٢٠١٨. ونتيجة الإصلاحات قبل النزاع، والخسائر ونقص الموارد وقطع الطرق بعد النزاع، تدهور حجم إنتاج وأرباح المنتجين الزراعيين الريفيين، وتفاقمت الديون على المزارعين في المناطق الريفية، وتقلصت دائرة تداول المال، ما أدى إلى تضخم هذه المشكلات وامتداد تأثيرها إلى قطاعات أخرى تعتمد على الزراعة مثل الصناعة والنقل.

الجزء الثالث: أثر ديناميات النزاع على الريف السوري: شرق محافظة حماة نموذجاً

كان للنزاع أثر كبير وعميق على التجمعات السكانية الريفية والإنتاج الزراعي، الذي يعد النشاط الاقتصادي الأساسي في المناطق الريفية. عام ٢٠١٠، كان ٤٦ في المئة من مجموع سكان سوريا يقيمون في المناطق الريفية، و٨٠ في المئة من هؤلاء يكسبون دخلهم من العمل الزراعي.[55] مثّل سكان الأرياف ٦٢ في المئة من فقراء سوريا، والذين يشملون أصحاب الحيازات الزراعة الصغرى (من مالكي المزارع ومربّي المواشي) والعاملين بأجر والشباب العاطل عن العمل والنساء والعائلات التي تعيلها نساء.[56] وفيما تعرّض سكان الأرياف لعنف واسع النطاق خلال السنوات التسع الماضية،[57] كان لبُعد التجمعات السكانية الصغيرة عن مراكز المدن أن زاد من تعرضها للعنف، وحرمها من تداول السلع، وهو نشاط مهم لاستمرار الحياة في القرى والبلدات الصغيرة. في الوقت نفسه، تراجعت جودة الخدمات العامة مثل الرعاية الصحية والكهرباء ومياه الشرب تراجعاً حاداً.[58] وقد خلص مسح أجراه المكتب المركزي للإحصاء إلى أن المشاركة في الأنشطة الزراعية بين بدء النزاع وعام ٢٠١٤ انخفضت بمقدار الثلث.[59]

تراجع الأمن الغذائي عام ٢٠١٧ لدى سكان الريف والمدينة على حد سواء،[60] ولكن هذا التراجع كان أكبر في المناطق الريفية، نتيجة تركّز السكان النازحين داخلياً فيها وصعوبة الوصول إلى الأسواق من خلالها وانخفاض القوة الشرائية بين أبنائها. وبينما يُتوقع أن يكون الأمن الغذائي لسكان الأرياف أفضل نتيجة وصولهم المباشر للغذاء من خلال أنشطتهم الزراعية، يبدو أن الأزمة الزراعية وتفاقم الديون جرّاءها ونقص السيولة النقدية حدّت من فوائد الوصول المباشر للغذاء. وبالنتيجة فإن المحافظات التي كانت تضم نسبة أعلى من السكان العاملين في الزراعة عام ٢٠١٠ صدّرت عدداً أكبر من اللاجئين خلال النزاع، وهي نفسها المحافظات التي تعاني من أمن غذائي منخفض عام ٢٠١٧ (الرسم بياني ٩). يتوافق هذا مع إحصاءات الفقر لعام ٢٠٠٩ التي بيّنت أن العاملين في الزراعة هم ثاني أفقر فئة من العمال في سوريا، حيث يعيش ٥٨ في المئة منهم في فقر مدقع، وترتفع هذه النسبة إلى ٧٢ في المئة لدى حساب خط الفقر الأعلى.

الرسم بياني ٩: التناسب بين نسبة العمالة الزراعية من إجمالي قوة العمل والأمن الغذائي وعدد اللاجئين