Home page

يمكن تنزيل منشورات المشروع لأغراض البحث الشخصية فقط. إن أيّ استنساخٍ إضافيّ لأغراض أخرى، سواء على شكل نسخ مطبوعة أم إلكترونية، يتطلّب موافقة المؤلّفين.
أما في حال الاستشهاد بالنص أو اقتباسه، فيجب الإشارة إلى الأسماء الكاملة للمؤلّفين والمحرّرين، إضافةً إلى العنوان، والسنة التي نُشِر فيها، والناشر.

العشائر والسلطة في مدينة حلب

  • الكاتب: زياد عواد
  • التاريخ: الأربعاء, 05 كانون الثَّاني 2022
  • تحرير: ياسر الزيات

تحميل الملف pdf

ملخّص تنفيذي

لتحصين مدينة حلب من الداخل، وإبقائها ما أمكن بعيداً عن الثورة التي اندلعت في مدن أخرى، استنفر النظام حلفاءه من رجال الأعمال ورجال الدين وزعماء العشائر. ضمن هذا التحالف انخرطت مجموعات منحدرة من عشائر باب النيرب إلى جانب قوات الأمن في قمع الحراك الثوري، دون أن يمنع هذا التحالف تباين مواقف زعماء العشائر أو حدوث انقسامات داخلها. ففي الأحياء الغربية التي ظلت تحت سيطرة النظام، تأسست ميليشيات على يد أبناء عشائر موالين هربوا من معاقلهم في الأحياء الشرقية التي سيطرت عليها فصائل الجيش الحر. شكلت الميليشيا إطاراً التقت فيه العشيرة بالنظام، بمصالح وأهداف مشتركة. فمن جهة النظام، كانت الميليشيا رافداً ضرورياً لتعزيز قواته العسكرية وتعويض النقص العددي الناجم عن الاستنزاف واتساع جبهات القتال. ومن جهة العشيرة، قدمت الميليشيا مظلة لحفظ مصالح أبناء العشيرة وتوفير الحماية لهم ضمن معسكر النظام، كما ساهمت في صناعة زعماء جدد وتعزيز مكانة زعماء سابقين.

بعد انتهاء القتال لصالح النظام، تضاءلت أهمية الأدوار العسكرية للعشائر، ما تسبب في انحلال الكثير من الميليشيات الصغيرة والمتوسطة أو انكماشها، في حين تمكنت الميليشيات التي تعتمد على التدخل الأجنبي، والتحقت بجبهات قتال جديدة من البقاء والنمو. وفي مدينة دُمِّر نصفها الشرقي تدميراً كاملاً، وهُجِّرت أغلب نخبها التقليدية، استندت المجموعات العشائرية على رأسمال متنوع لتوسيع نفوذها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، مثل أدوارها العسكرية السابقة وموقع زعمائها ضمن شبكات السلطة المتشكلة خلال الحرب. فقد احتل زعماء عشائر باب النيرب العديد من المقاعد في الهيئات التمثيلية الرسمية منذ ٢٠١٦، ولا سيما مجلس الشعب. كما شاركوا متنفذين آخرين من خارج الوسط العشائري في الهيمنة على القطاعات الأكثر ربحية من اقتصاد الظل، والذي فاق حجمه حجم الاقتصاد الرسمي لمدينة حلب. أخيراً، نجح هؤلاء الزعماء في تعزيز مكانتهم الاجتماعية في ثلاثة اتجاهات: نحو عشائرهم ذاتها، ونحو العشائر الأخرى، ولا سيما الفقيرة والمنقسمة منها، ونحو مجتمع المدينة، الذي يعاني من الضعف والافتقاد إلى سند ووسطاء مهمين من أبنائه.

مقدمة

استمر الصراع العسكري في مدينة حلب منذ صيف ٢٠١٢، حين سيطرت قوات المعارضة على الأحياء الشرقية من مدينة حلب، وحتى كانون الأول ٢٠١٦، حين انتهاء العمليات القتالية في المدينة لصالح النظام. طوال هذه السنوات، مرت المدينة بتغيرات كبيرة، اقتصادياً: هاجر معظم صناعييها وتجارها الكبار والمتوسطين؛ وسكانياً: أفرغت موجاتُ النزوح أحياءها الشرقية من معظم سكانها؛ واجتماعياً: تخلخلت الطبقات نتيجة صعود نخب جديدة وهبوط أو هجرة النخب القديمة. ولعل دمار حلب لا يعني الدمار المادي الذي طال المدينة فحسب، بل أيضاً الدمار الأهلي وتفكّك العلاقات الاجتماعية التي شكّلت المدينة.[1]

من علامات هذه التفكك ظهور فاعلين جدد، مثل بعض أبناء العشائر الموالين للنظام، الذين أحرزوا الكثير من المكاسب خلال الحرب وبعدها. تدرس هذه الورقة تطورات العلاقة بين السلطة وبعض المجموعات العشائرية الموالية لها في مدينة حلب منذ ٢٠١١. نظراً لأهمية الدور الذي لعبته هذه المجموعات خلال الصراع، وأهمية الموقع الذي تشغله في خارطة القوى والنفوذ المحلي بعد الحرب، وتنحصر الدراسة بالعشائر المتركزة في حي باب النيرب وامتداداته العمرانية وبعض القرى الأخرى في محيط المدينة،[2] وهي عشائر جيس مجسدةً بآل بري والعساسنة والبقارة.

خلال عهد حافظ الأسد (١٩٧٠-٢٠٠٠)، تعددت أشكال اختراق السلطة للمجتمعات المحلية. في حالة العشائر الريفية في عموم البلاد، شكل كل من حزب البعث واتحاد الفلاحين، والقطاع العام بمؤسساته المختلفة، مداخل وأطر تعبئة التقى فيها النظام بالعشيرة. لكن في حالة عشائر مدينة حلب، والتي أخذت تستوطن المدينة انطلاقاً من حي باب النيرب وبدءاً من النصف الثاني من القرن التاسع عشر،[3] أخذ الاختراق أشكالاً غير رسمية، مثل إدارة الصراعات بين العائلات المافيوية من هذه العشائر،[4] أو تواطؤ قادة أجهزة المخابرات مع بعض زعمائها العاملين بأنشطة اقتصادية غير شرعية. يمكن تفسير هذه الاختراقات غير الرسمية بعوامل ذاتية مميزة لهذه العشائر: مثل انخفاض معدلات التوظيف الحكومي والتحصيل العلمي والانتساب الى حزب البعث؛ وكذلك بعوامل موضوعية: مثل تسلط النظام المتزايد على الدولة والمجتمع، ولا سيما بعد صراعه الدامي مع جماعة الإخوان المسلمين مطلع عقد الثمانينات، وتضخم اقتصاد الظل الذي عمل فيه الكثير من أبناء عشائر باب النيرب، وتحديداً في مجالات التهريب والتوسع العمراني العشوائي والأنشطة المالية المرتبطة بتحصيل الديون. وقد ساهمت الثروات والعلاقات الزبائنية المكتسبة من هذه الأعمال، إلى جانب الصلات ببعض قادة أجهزة المخابرات، في صعود زعماء جدد وترسيخ مكانة زعماء سابقين وسط بعض العشائر.[5] مرت التغيرات التي حملها العقد الأول من عهد بشار الأسد بعيداً عن عشائر باب النيرب، ولم تنشأ عوامل جديدة في علاقة هذه العشائر بالنظام، حيث استمر خضوع العشيرة له، مقابل ضعف صلاتها بالدولة، ومن ثم استلحاقها خارج الأطر الرسمية بالمرور جزئياً عبر زعيم العشيرة.

رغم قدم استيطانها في مدينة حلب، وقرب مساكنها الأولى في باب النيرب من قلعة حلب في مركز المدينة، إلا أن العشائر ظلت تعيش لعدة عقود في فضائها المنفصل عن فضاء المدينة، عمرانياً، في الأحياء العشوائية شرق وجنوب المدينة، واجتماعياً بكتلة منعزلة ذات نسيج يجمع العائلات المنتمية إلى كل عشيرة، من دون اهتمام أو اندماج بالمجتمع المديني الحلبي، الذي قابل هذه العشائر بنظرة متوارثة، تضعها بمرتبة أدنى بوصفها غير متحضرة. كانت العشائر مكتفية بعالمها الخاص، لا تطمح إلى تجاوزه إلا طلباً لدعم السلطة أو لتساهلها بما يقوي مركز العشيرة داخل ذاك العالم. أما النظام فكان يتمتع بفائض قوة قبل الثورة سمحت له بإدارة علاقته بالعشائر، إخضاعاً أو استيعاباً، حسب الوقت والحاجة. تحاول هذه الورقة الإجابة على السؤال التالي: كيف غيرت الحرب أدوار المؤيدين النشطين للنظام من أبناء العشائر في مدينة حلب، على مستوى السلطة ومستوى المجتمع؟

استندت الدراسة إلى مصادر متنوعة، أهمها المقابلات التي أجراها الباحث مباشرة أو عبر الانترنت، مع ٦٠ شخصاً، بينهم وجهاء وناشطون اجتماعيون متعددو المهن من العشائر المدروسة، إضافة إلى محامين وقضاة وتجار ومثقفين وطلاب جامعات ورجال دين وموظفين حكوميين وأعضاء ومسؤولين سابقين في حزب البعث من أبناء مدينة حلب. واستندت أيضاً على المحتوى المنشور في وسائل الإعلام الموالية، ومواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بمؤيدي النظام من هذه العشائر، إضافة إلى المواقع الإلكترونية الرسمية.

الجزء الأول: أدوار المجموعات العشائرية خلال الحرب وبعدها

خلقت الثورة من جانب، واستراتيجيات النظام المقابلة لسحقها من جانب آخر، انفعالات واستجابات متباينة وسط عشائر باب النيرب، تسببت بحالة انقسام داخل بعضها، ولا سيما إثر اندلاع الصراع المسلح صيف العام ٢٠١٢، وسيطرة الجيش الحر على الأحياء الشرقية من مدينة حلب، وفيها معقل العشائر. بدوافع مختلفة، كان منها الخوف من انتقام الثوار، انتقل معظم زعماء تلك العشائر إلى الأحياء الغربية التي ظلت تحت سيطرة النظام. وقد اصطف هؤلاء الزعماء إلى جانبه، أمنياً لمواجهة الحراك الثوري السلمي، ومن ثم عسكرياً من خلال تشكيل ميليشيات مسلحة عشائرية التركيب. وبصرف النظر عن أهمية دورها العسكري خلال الحرب التي انتهت بانسحاب فصائل المعارضة المسلحة من المدينة في كانون الأول ٢٠١٦، شكلت الميليشيا عاملاً رئيسياً في تقوية صلات المجموعات العشائرية الموالية بالنظام، وبحلفائه الإيرانيين خاصة، وفي الحفاظ على الزعامة أو في اكتسابها.

حشد العشائر وانقساماتها في مواجهة حركة الاحتجاجات

مثل أغلبية النخب في مدينة حلب، كرجال الدين والصناعيين والتجار، وقف معظم زعماء العشائر إلى جانب النظام، في حين التزمت أقلية منهم الحياد. لم يكن الموقف السياسي المعلن ثابتاً ونهائياً في بعض الحالات، بل مضطرباً ومتغيراً تبعاً لمجريات الصراع. ثمة ثلاثة عوامل أثرت في موقف زعماء العشائر، وهي متانة الصلات التي تربطهم بالنظام، والسمات الشخصية للزعيم، وطريقة نشوء الزعامة.

في حالة عشيرة جيس، المتناثرة على شكل عوائل صغيرة حول عائلة بري البارزة والكبيرة - والتي قُدر عدد أفرادها من الجنسين عام ٢٠١١ بخمسة آلاف فرد[6] - كانت هناك صلات وثيقة ربطت شعبان محمود بري،[7] ثم أبنائه من بعده،[8] بقادة أجهزة المخابرات منذ سبعينات وثمانينات القرن الماضي. لعبت هذه الصلات دوراً رئيسياً في الموقف الذي اتخذه، زعيم العائلة/العشيرة وقت اندلاع الثورة، زين العابدين بن شعبان، المعروف بلقب زينو.[9] وكانت طباع زينو الاستعراضية، المتسمة بالطيش والعنف والجرأة، سبباً في سهولة استقطابه من جانب المخابرات ضد الحركة الاحتجاجية، وهو ما جعله رأس حربة الحشد الأهلي المؤيد للنظام في مدينة حلب. فقد سارع إلى تشكيل مجموعة مما يعرف بـ"الشبيحة" ضمت المئات من أبناء عائلته وعشيرته، وآخرين ممن يدورون في فلكه، سواء من معقله بحي باب النيرب، أو من قرية تل شغيب في محيط المدينة حيث الفروع الأشد فقراً من العائلة. ومن بين مجموعات الشبيحة المتشكلة في الأشهر الأولى بعد اندلاع الثورة، كانت مجموعة زينو بري الأشرس والأشد وحشيةً في مواجهة المتظاهرين، ولا سيما من طلاب جامعة حلب.

وتقدم عشيرتا العساسنة والبقارة أمثلة مكملة على التطرّف في الموقف المساند للنظام، الذي اتخذه زعماء بنوا مكانتهم الاجتماعية استناداً على ركيزتي الثروة المكتسبة بطرق غير مشروعة يتخللها العنف، والصلات الوثيقة بالسلطة. فوسط عشيرة العساسنة - التي قُدِّر عدد أفرادها بسبعين ألفاً - لم يكن حسين بن أحمد حمرة يتمتع بتاريخ بارز حتى منتصف تسعينات القرن الماضي. فقد كان يعمل سائقاً لسيارة شحن تنقل الأغنام إلى السعودية. لكن بفضل الثروة الكبيرة التي جمعها من تجارة المخدرات، مستغلاً عمله بالشحن، ثم علاقاته الأمنية، تحول الحمرة في العقد اللاحق إلى أحد زعماء العساسنة البارزين. وقد قاد حسين حمرة وأبناؤه مجموعة شبيحة من العساسنة شاركت في قمع المتظاهرين أمام الجامع الأموي وسط مدينة حلب، وكذلك في حيي سيف الدولة وصلاح الدين في الجزء الغربي من المدينة، فضلاً عن محاولاتها التصدي للمتظاهرين في حي المرجة، معقل العشيرة. وبمثال مشابه من عشيرة البقارة - حوالي ستين ألفاً - اعتمد عبد الله الحمد، المعروف بـ"بسّوتة"، على الثروة والعلاقات الأمنية في رحلة صعوده من بائع تراب زراعي على دراجة ثلاثية العجلات مطلع التسعينات إلى تاجر عقارات ثم زعيم وسط عشيرته، حيث وضع يده بالقوة والاحتيال على أراض واسعة في توسع منطقة حندرات العمراني، وبنى في العقد اللاحق هناك مسجداً ومضافة، تأكيداً على مكانته وموقعه الاجتماعي المكتسب.[10] بعد الثورة، قاد بسّوتة مجموعة نفذت كمائن عدة ضد هاربين من أجهزة المخابرات على الطرق في منطقة حندرات شمال شرق المدينة.

أما الحياد الذي مال إليه عدد قليل من زعماء عشائر باب النيرب فيمكن تفسيره بسمات شخصية ميّزت معظم المحايدين، إضافة لمواقعهم العريقة ضمن عشائرهم. مثال ذلك الزعيم الأقدم والأوسع مكانةً بين أبناء عشيرة البقارة في المدينة، سطوف بن حمود المرعي.[11] فقد تملّص المرعي من دعوة وُجِّهت إليه لمقابلة بشار الأسد ضمن وفد عشائري من محافظة حلب في نيسان ٢٠١١،[12] ورَفَض العرض الذي قدمه رئيس فرع المخابرات الجوية اللواء أديب سلامة، في صيف ٢٠١١، لاستلام أسلحة لتشكيل مجموعة شبيحة تابعة له. كما بقي المرعي في بيته بباب النيرب بعد سيطرة الجيش الحر على الأحياء الشرقية من حلب صيف ٢٠١٢، إلى أن دفعته حملات القصف الجوية على تلك الأحياء، حاله حاله أغلبية السكان، إلى النزوح ثم اللجوء إلى تركيا عام ٢٠١٤،[13] دون أن ينخرط في المجالس العشائرية المعارضة.[14]

وبخلاف الزعماء الذين تراوحت مواقفهم عموماً بين الحياد ودرجات من التأييد، ظهرت حالات انقسام على مستوى قواعد العشيرة تفاوتت حدتها من عشيرة إلى أخرى، لكنها أخذت تتسع عموماً خلال سنوات الحرب. وقد أثرت ثلاثة عوامل رئيسية في تشكيل استجابات العشائر المختلفة في الحجم والاتجاه: درجة التنوع والانفتاح على مجتمع مدينة حلب، وفق ما تفرضه كل من علاقات العمل السابقة ومستوى التعليم؛ قوة الزعيم الموالي للنظام داخل العشيرة؛ وقوة أو تأثير الأفراد المناوئين للنظام من العشيرة.

فرغم وجود مؤيدين للثورة بين كبار وجهاء عائلة بري، مثل الأخوين سيف الدين وسعد الله رجب بري، إلا أن القوة التي اكتسبها ابن عمهما زينو همشت كل المناوئين للنظام وأخرجتهم عن دائرة التأثير. فمن خلال رُخَص حمْل السلاح التي أصدرتها أجهزة المخابرات بوساطة منه، ووُزِّعت بإشرافه على المئات من أبناء عشيرته وعشائر أخرى، تمكن زينو برّي من زيادة أتباعه وتقوية مركزه حتى مقتله في تموز ٢٠١٢. وبدرجة أقل ضمن عشيرة البقارة، وقف زعماء هامشيون موالون للنظام عائقاً أمام ظهور أي بؤر ثورية في العشيرة، ليظل التيار الموالي هو الأقوى داخلها رغم حياد الأكثرية.[15]

وكان الانقسام أشد وضوحاً وسط عشيرة العساسنة، والتي يتقاسم زعامتها عدة أشخاص من فروع وعائلات مختلفة. [16] وتعتبر هذه العشيرة أكثر انفتاحاً على مجتمع حلب المديني. فمن خلال بعض أبناء العشيرة الذين تربطهم صداقات أو علاقات عمل سابقة ببعض قادة الحراك من أبناء مدينة حلب أو من طلاب جامعتها، انتقلت المظاهرات إلى حي المرجة معقل العساسنة صيف العام 2011، مثلما انتقلت وبالحوامل ذاتها إلى أحياء أخرى شرق المدينة مثل الصاخور وطريق الباب.[17] خلق ذلك نوعاً من الحماية الأهلية للمتظاهرين، وقيّد في الوقت نفسه قدرة زعماء العشائر أو ناشطيها المؤيدين للنظام على مواجهتهم.[18] رغم ذلك. ظل لمجموعات الشبيحة المنحدرين من العساسنة ومن البقارة، إلى جانب مجموعة زينو بري، دور رئيسي في قمع المظاهرات وتحجيم الحراك الثوري وعزله، ولا سيما في الأحياء الغربية من مدينة حلب.

الميليشيا العشائرية: إطار التقاء بالنظام

يصعب تحديد تاريخ دقيق لنشوء كل ميليشيا، لكنها عموماً تأسست كتشكيلات عسكرية واضحة تقاتل إلى جانب قوات النظام، بدءاً من العام ٢٠١٣،[19] وسط فلول مؤيديه من أبناء العشائر، الذين هربوا من الأحياء الشرقية التي سيطر عليها الجيش الحر، إلى الأحياء الغربية التي ظلت تحت سيطرة النظام، مثل أحياء الحمدانية والشهباء الجديدة وجمعية الزهراء. بتغير موازين القوى لصالح المعارضة، تعزز موقف الثوار من أبناء العشائر ومن سواهم، وانخرط أكثرهم في صفوف الجيش الحر وبدرجة أقل في صفوف الفصائل السلفية الجهادية، أو في المنظمات غير الحكومية ولجان الأحياء والمجالس المحلية الثورية المتشكلة. حينذاك نشأت حركة اصطفاف جديدة لصالح المعارضة، حيث التحق المئات من أبناء عشائر باب النيرب والآلاف من أبناء الأحياء الشرقية بتشكيلات الجيش الحر، وانقلب بعض المؤيدين للنظام على مواقفهم السابقة ليلتحقوا بالمعارضة.[20]

كان لدى مؤسِّسي الميليشيات العشائرية - وجميعهم من قادة مجموعات الشبيحة السابقين، أو رعاتها أو عناصرها البارزين - دوافع مختلفة للانخراط مجدداً في الصراع، عبر تأسيس ميليشيات مسلحة. ويبدو أن أبرز هذه الدوافع هي الانتقام والثأر من الثوار، الذين حطموا مكانة ومكتسبات مؤسس الميليشيا، أو قتلوا أحد أفراد أسرته، في كثير من الحالات. كما كان مصير هؤلاء المؤسِّسين مرتبطاً بمصير النظام، ما ولّد خشية من هزيمته النهائية. وأخيراً، الطمع بالمكاسب والامتيازات التي يمنحها النظام لمن يسانده. اجتمعت هذه الدوافع كلها لدى حسن شعبان بري بعد مقتل شقيقه زينو على يد عناصر الجيش الحر في ٢٠١٢،[21] ثم تشرذم المجموعة التابعة له، وانكسار العائلة إثر سيطرة الجيش الحر على معقلها في باب النيرب. باشر حسن شعبان بري بتجميع أبناء عشيرته وآخرين من عشيرة جيس وعشائر أخرى، وبدأ تأسيس ميليشيا خاصة في ٢٠١٣ تحت مسمى لواء زين العابدين بري، وذلك برعاية من المخابرات الجوية. كذلك تأسست العديد من الميليشيات بين ٢٠١٣ و٢٠١٤ وسط فلول الشبيحة من عشيرتي البقارة والعساسنة. وبينما تمتع بعض هذه الميليشيات باسم وكيان واضح، مثل لواء الباقر وسط عشيرة البقارة، بقي بعضها الآخر مجموعات صغيرة ضمن مجموعات أكبر تتبع مباشرة لأجهزة المخابرات، التي نشرت مجموعات تابعة لها في مواقع استراتيجية مثل محيط المخابرات الجوية شمال مدينة حلب، وبرج القصر البلدي المطل على خطوط التماس وسط المدينة.

وبينما بدأت معظم الميليشيات من بضع عشرات من المقاتلين، ربطتهم إما القرابة ضمن العائلة الواحدة، أو المصلحة والمنافع المتبادلة التي تتعدى الأقارب، إلا أن الميليشيات في مرحلة التوسع أخذت تتطلب قدرات أكبر. وتفاوتت الميليشيات العشائرية الموالية للنظام من حيث الحجم والتوسّع بحسب الجهة الراعية للميليشيا، سواء كانت جهازاً أمنياً أو حليفاً أجنبياً؛ والقدرة على تعبئة الرابط العشائري أو إحيائه من خلال استثارة المخاوف وتقديم الخدمات والمنافع المادية لأبناء العشيرة المستهدفين بالتجنيد؛ وأخيراً بناء تحالفات في أوساط خارج العشيرة. ففي عشيرة العساسنة، على سبيل المثال، لم يظهر تشكيل عسكري كبير ومعمِّر، حيث تعددت ميليشيات العساسنة بسبب تعدد رؤوس مؤيدي النظام من أبنائها، وتكافُئهم تقريباً من حيث القدرة على الاستقطاب وتقديم المنافع، فضلاً عن التنافس فيما بينهم، وهو ما تُظهره الميليشيات التي أسسها حسين حمرة وأحمد شيخ الضيعة المنحدران من فرعين مختلفين من العساسنة. أما لواء زين العابدين بري ولواء الباقر، التابعان لقوات الدفاع المحلي التي يرعاها الحرس الثوري الإيراني وحزب الله وبقيادة شكلية من ضباط جيش النظام، فقد تمكنا من النمو بين ٢٠١٤ و٢٠١٦ وضم المئات من المقاتلين إلى صفوف كل منهما. وفيما جنّد لواء زين العابدين العديد من أبناء قرية جبرين المجاورة للمطار شرق المدينة، توسع لواء الباقر داخل عشيرة البقارة وفي عشائر أخرى. ويصعب تقييم الدور العسكري للميليشيات العشائرية منفردة، بسبب انخراط معظم الميليشيات في المعارك جنباً إلى جنب مع الوحدات العسكرية النظامية، على جبهات عدة داخل المدينة وفي بعض القواعد العسكرية والمطارات حولها. لكن قد يكون حجم الخسائر البشرية في كل ميليشيا مؤشراً على حجم وجدية مشاركتها. فخلال معارك المدينة وما حولها، وصل عدد القتلى من آل بري المحسوبين ضمن قتلى اللواء إلى ١٤٠ حتى العام ٢٠١٧،[22] ما يدل على مشاركة كبيرة نسبياً لهذه العائلة وهذه الميليشيا في تلك المرحلة.

تضاءلت أهمية الأدوار العسكرية للعشائر بعدما استعاد النظام السيطرة في الأحياء الشرقية من مدينة حلب وحول المدينة في نهاية العام ٢٠١٦، ما تسبّب بانحلال الميليشيات الصغيرة والمتوسطة أو انكماشها، في حين تمكنت الميليشيات التي تعتمد على التدخل الأجنبي - مثل لواء الباقر المدعوم من إيران - من البقاء. وبينما استنفد لواء زين العابدين بري قدرته على زيادة عناصره بعد توقف القتال في حلب، حيث أحجم عن المشاركة في عمليات كبيرة في الجبهات البعيدة، استأنف لواء الباقر نموّه ليصل عدد عناصره الكلي إلى ١٥٠٠ تقريباً في العام ٢٠٢٠. واعتمد لواء الباقر أساساً على الدعم الإيراني المتزايد، سواءً من ناحية التمويل - برواتب تتراوح بين ٥٠ و٧٥ دولار بالشهر[23] - أو التدريب والتسليح. كما استفاد قادة اللواء وعناصره من الغنائم وممتلكات السكان المنهوبة، ولا سيما خلال الحملة العسكرية الضخمة التي أطلقها النظام وحلفاؤه ضد تنظيم داعش في محافظة دير الزور في ٢٠١٧. أخيراً، حظي المنتسبون إلى اللواء بامتيازات أخرى، مثل احتساب مدة الخدمة في صفوفه ضمن الخدمة الإلزامية، ما دفع الكثير من شبان عشيرة البقارة في مدينة حلب إلى الانضواء في صفوف اللواء بغية الإفلات من الخدمة العسكرية ضمن جيش النظام.[24]

 شكلت الميليشيا إطاراً التقت فيه العشيرة بالنظام عبر علاقات مباشرة وأهداف ومصالح مشتركة. فمن جهة النظام، كانت الميليشيا رافداً ضرورياً لتعزيز صفوف قواته العسكرية بما يعوض النقص العددي نتيجة الاستنزاف واتساع جبهات القتال. ومن جهة العشيرة، قدمت الميليشيا المتولدة عنها مظلة لحفظ مصالح أبنائها وتوفير الحماية لهم ضمن معسكر النظام. ويؤكد ميل أبناء العشائر إلى الانتساب إلى الميليشيات العشائرية، دوناً عن تلك التي تأسست تحت مظلة رسمية مثل كتائب البعث وقوات الدفاع الوطني - اللتين تأسستا في الأشهر الأخيرة من العام ٢٠١٢ - على نفور أبناء العشائر من أي إطار رسمي قد يدمجهم بآخرين من خارج بيئتهم، أو يضعهم تحت عنوان حديث لا يثير اهتمامهم ولا يشبههم أو يحظى بثقتهم. وهم إن أرادوا أن يقتربوا من السلطة، فهذا لا يعني تقبلهم الجدي لكل ما ينبثق عنها، ولا سيما في ظل قدرتهم على خلق بديل يحافظ على مزاياهم وعلى ما يرونه عوامل قوة ذاتية تُبقي الطلب مرتفعاً على أدوارهم أو على الأقل تحمي مكاسبهم المتحققة.

وإلى جانب المشاركة العسكرية المستمرة في حالة لواء الباقر، يعتبر التحشيد الشعبي من أبرز الأدوار التي تلعبها المجموعات العشائرية الموالية للنظام اليوم. فبعد أن بسط النظام سيطرته العسكرية والأمنية على كامل مدينة حلب، تتسابق عشائر باب النيرب لترسيخ سلطته عبر تنظيم الدعايات الانتخابية[25] أو تنظيم المؤتمرات والملتقيات العشائرية، سواءً ضد فصائل المعارضة وحلفائها الأتراك أو ضد الإدارة الذاتية وحلفائها الأمريكيين.[26]

 الخريطة ١: مدينة حلب وما حولها[27]

المصدر: المؤلف

 الجزء الثاني: تنامي نفوذ العشائر الموالية في مدينة حلب بعد الصراع

دمرت العمليات الحربية لقوات النظام معظم الأحياء الشرقية من مدينة حلب، وهجّرت معظم سكانها الذي قُدِّر عددهم بحوالي ١.٢ مليون نسمة في عام ٢٠١١، بما يعادل نصف سكان المدينة تقريباً وقتذاك.[28] إلا أن آثار الصراع لم تنحصر بهذه الأحياء، بل تعدتها إلى الأحياء الغربية التي يقطنها أبناء المدينة الأصليون، ولا سيما المنحدرون من الطبقتين العليا والمتوسطة. ففي بيئة ظلت تتداعى تحت تأثير الأزمات الاقتصادية اللاحقة، خسرت المدينة معظم نخبها، سواءً بهجرة هذه النخب أو تراجع أهميتها لمصلحة نخب جديدة صنعتها الحرب. في هذا السياق، وسّع زعماء عشائر باب النيرب والناشطون البارزون من أبنائها نفوذهم إلى حدود غير مسبوقة: سياسياً من خلال احتلال المزيد من المقاعد في المؤسسات أو الهيئات الرسمية المنتخبة، ولا سيما مجلس الشعب؛ واقتصادياً من خلال الهيمنة على قطاعات مهمة من اقتصاد الظل؛ واجتماعياً من خلال التأثير المتزايد على العشيرة نفسها، وعلى العشائر الأخرى، وعلى مجتمع مدينة حلب.

تزايد حضور العشائر في الهيئات التمثيلية

في المجال السياسي، سجل زعماء وناشطو عشائر باب النيرب حضوراً متزايداً في المؤسسات التمثيلية الرسمية بدءاً من العام ٢٠١٦، ولا سيما مجلس الشعب الذي يعد المؤسسة الأهم بالنسبة للعشائر. فمنذ زيادة عدد مقاعد المجلس في انتخابات ١٩٩٠ وحتى انتخابات ٢٠١٢، لم يكن المنحدرون من هذه العشائر وعن دائرتي مدينة حلب ومناطق حلب يزيدون على ثلاثة أعضاء في معظم الدورات الانتخابية. أما في انتخابات ٢٠١٦، التي فاز فيها عدد من قادة الميليشيات والناشطين الأمنيين،[29] فقد تزايد ممثلو عشائر باب النيرب إلى خمسة أعضاء، اثنان منهم عن دائرة المدينة، وثلاثة عن دائرة مناطق حلب. وقد تحققت زيادة عددية أكبر في انتخابات ٢٠٢٠، ولا سيما عن دائرة مناطق حلب، حيث فاز خمسة مرشحين من عشيرة العساسنة، إلى جانب اثنين من البقارة، وواحد من آل بري. [30]وبينما فاز ستة على مقاعد المستقلين، فاز اثنان آخران على مقاعد حزب البعث، مجسّدَين نموذجاً جديداً للنائب البعثي الذي ظهر بعد انتخابات ٢٠١٦. وقد عمل معظم هؤلاء في وقت سابق كقادة أو رعاة لميليشيات عشائرية.

تمثلت هذه العشائر أيضاً في انتخابات الإدارة المحلية عام ٢٠١٨.[31] فقد حافظ عيسى الإبراهيم، أحد وجهاء العساسنة، على موقعه في المكتب التنفيذي لمجلس محافظة حلب، وكان لكل من البقارة وآل بري ممثلوهم في مجلس المحافظة.[32] جاءت الزيادة الأكبر في تمثيل عشائر باب النيرب في مجلس الشعب ومجالس الإدارة المحلية على مقاعد الريف، رغم إقامة معظم المرشحين في المدينة وتركز أنشطتهم الرئيسية فيها أو على أطرافها. بهذا التمثيل المتركز في الريف، يتاح للنظام اجراء توازناته الخاصة على أساس اقتصادي واجتماعي وديني مع المكونات الأخرى في مدينة حلب، أما بالنسبة للعشائر أو لممثليها فلا يعني ذلك الكثير طالما ضمنت مواقعها وتمتعها بالمكانة والمكاسب التي يحققها هذا التمثيل.

أخيراً، بعد تغيرات كبيرة في غرفة تجارة حلب بدأت منذ انتخابات ٢٠١٤ وعكست صعود رجال أعمال جدد من أمراء الحرب،[33] تَمثَّل العساسنة بعضو في مجلس إدارة الغرفة بعد انتخابات ٢٠٢٠.[34] وقد كانت هذه سابقة بالنسبة للعشائر الثلاث، والتي لم يدخل أي من أبنائها في إدارة هذه الغرفة من قبل.

في كل من الهيئات التمثيلية الثلاث التي شهدت اتساع النفوذ السياسي لعشائر باب النيرب، ثمة قاسم مشترك واحد بين ممثلي هذه العشائر، هو انتماؤهم إلى الفروع والعائلات ذاتها تقريباً من هذه العشائر. فهي إما عائلات ثرية سابقاً، مثل بري وحمرة، أو عائلات أثرت خلال الحرب، مثل العلوش (انظر أدناه). كما أنها تتمتع بعلاقات وروابط مباشرة بقادة أجهزة المخابرات. ففرع الصاوج من عشيرة العساسنة، والذي يضم كل من آل عيسى وآل حمرة وآل شهيد، متمثل في مجلس الشعب والمكتب التنفيذي لمجلس مدينة حلب ومجلس إدارة غرفة تجارة حلب، ويتمتع زعماؤه بعلاقات ممتازة مع قادة كبار في أجهزة المخابرات مثل اللواء كفاح ملحم، رئيس شعبة المخابرات العسكرية الذي عمل سابقاً في مدينة حلب،[35] والعميد فادي عباس، الضابط البارز في المخابرات الجوية والذي لعب دوراً رئيسياً في معارك حلب.[36] كما أن عائلة شعبان بري، التي حافظت على تمثيلها في مجلس الشعب ونالت تمثيلاً في مجلس محافظة حلب، تتمتع بعلاقة شبيهة وقديمة باللواء علي مملوك، رئيس مكتب الأمن الوطني، وكذلك بقادة آخرين في أجهزة المخابرات، فضلاً عن رعاية من المكتب الخاص في القصر الجمهوري. أما عائلة العلوش التي صعدت إلى صدارة عشيرة البقارة، والمتمثلة في مجلس الشعب ومجلس محافظة حلب، فتعتمد على الإيرانيين الذين باتوا يشكلون مركزاً أساسياً من مراكز القوى الفاعلة في المحافظة.

وبخلاف الهيئات التمثيلية التي لا تتطلب الكثير من المؤهلات، ولا الانتظار الطويل ومسارات تدرج بطيئة، لم تكن قوائم التعيينات المتجددة لقيادات حزب البعث والتنظيمات التابعة له، ولا إدارات المؤسسات الحكومية، من بين ساحات النفوذ الإضافية لعشائر باب النيرب. فإلى حد كبير، حافظ النظام على المحاصصات الفئوية السائدة بين ٢٠٠٠ و٢٠١١، وهو ما يظهر بوضوح في تعيينات عام ٢٠٢٠ لقيادة فرع حلب لحزب البعث، والتي ضمت أعضاءً يمثلون المكونات المناطقية والدينية والقومية الرئيسية لمجتمع محافظة حلب.

ونتيجة الاحتكاك المباشر خلال الحرب بأفراد ذوي سلطة رسمية، عسكرية أو أمنية أو مدنية، نشأت لدى الأجيال الشابة من العائلات النافذة وسط العشائر تطلعات وخيارات جديدة. فقد اندفع العديد من أبناء تلك العائلات إلى استكمال تعليمهم الثانوي، إما بدافع الالتحاق بالكليات العسكرية ليصبحوا ضباطاً، كما في حالة اثنين على الأقل من أبناء عائلة بري التي لم يظهر فيها قبل الثورة أي ضابط،[37] أو لدخول الجامعة ولا سيما كلية الحقوق، التي التحق بها العديد من أبناء عائلات بري والعلوش والحمرة، وهي الكلية التي تؤهلهم لشغل وظائف مهمة مثل ضباط شرطة أو قضاة أو محامين، إضافة إلى أعمال أخرى ضمن المؤسسات الحكومية.

الهيمنة جزئياً على اقتصاد الظل الجديد

بينما تشابهت أشكال الصعود السياسي لزعماء عشائر باب النيرب وبعض المتنفذين من أبنائها، لا يبدو أن مؤشرات صعودهم الاقتصادي تشير إلى الاتجاه ذاته، وذلك لتفاوت الطبقات التي كانوا ينتمون إليها قبل الثورة. وبغض النظر عن هذا التفاوت، كانت الأعمال والمهن الرئيسية السابقة لأبناء هذه العشائر متركزة في اقتصاد الظل، مثل تهريب الدخان، والشحن البري إلى الخليج، وضمناً تهريب المخدرات، والبناء في المناطق العشوائية، وتحميل وتفريغ الحبوب في مراكز التخزين الحكومية. ويمكن تمييز حالتين رئيسيتين انطلاقاً من المستوى الاقتصادي السابق على الثورة: الإثراء المتزايد لدى القادمين من طبقة فقيرة أو فروع أقل أهمية ضمن العائلة والعشيرة؛ والانكماش ثم محاولة اقتناص الربح لدى أصحاب الثروات السابقة قبل ٢٠١١.

يقدم أبناء حسين حسن العلوش، الذين ينتمون لعائلة غير ذات أهمية وسط عشيرة البقارة، مثالاً عن حالة الإثراء الفاحش بالاستفادة من الحرب. فمن عمال بناء ثم ملّاك صغار لبعض المحلات التجارية في حي البلورة الفقير قبل الثورة، أصبح الإخوة العلوش - خالد، قائد لواء الباقر، وحمزة، القيادي في اللواء، وعمر، العضو في مجلس الشعب - من كبار أثرياء مدينة حلب اليوم. وتملّك هؤلاء الإخوة عشرات المنازل والمحلات التجارية والمستودعات ومقاسم الأرض المعدة للبناء، والتي اشتروها بأثمان بخسة أو زوّروا عمليات شرائها، ولا سيما في الأحياء الشرقية والجنوبية، من المدينة مثل باب النيرب والمرجة والفردوس والشيخ سعيد. كما تملّكوا مئات الهكتارات من الأراضي الزراعية في الريف القريب جنوب المدينة،[38] فضلاً عن منازل أخرى في مدينة دمشق. يضاف إلى ذلك عقاراتهم في مدينة بعلبك اللبنانية والضاحية الجنوبية لبيروت، حيث يشغّلون رؤوس أموال في تجارة وتهريب المخدرات بالاستفادة من علاقاتهم بتجار مقربين من حزب الله.[39]

وفي مقابل حالة الصعود والإثراء الفاحش التي يمثلها الإخوة علوش، يقدم أبناء شعبان بري وبعض زعماء العساسنة أمثلة عن الثروة المتراكمة من اقتصاد الظل في العقود السابقة على الصراع، ثم الانكماش في السنوات الأولى منه، ثم السعي للانخراط بأعمال جديدة ومربحة. يصعب تقدير التغيرات التي طرأت على ثروة أبناء شعبان بري زيادة أو نقصاناً. فبعد ازدهار كبير شهده قطاع العقارات وأسهم في تضخم ثروة آل بري خلال العقدين السابقين، ولا سيما مع توسع المخطط التنظيمي لمدينة حلب في التسعينات ليشمل كروماً وأراضي زراعية واسعة يملكها الإخوة على طريق المطار،[40] مُني هذا القطاع بخسائر كبيرة خلال الحرب. كذلك يصعب تخمين ثروة زعماء العساسنة الحاليين، والذين كانوا قد بنوا ثرواتهم قبل الثورة من خلال أعمال تأثرت هي الأخرى بالحرب، مثل تهريب المخدرات إلى السعودية عبر سيارات شحن الأغنام والبضائع،[41] واحتكار تحميل ونقل وتفريغ الحبوب في مراكز تخزينها الحكومية والإثراء من هذا الاحتكار عبر الفساد والتلاعب بالكميات والجودة.[42]

وقد تشكل اقتصاد ظل جديد خلال الحرب تحت تأثير عوامل جديدة، أبرزها ضعف المؤسسات الحكومية في المدينة، وتنامي ظواهر الفساد والمحسوبيات، وانقسام البلاد بين قوى وأطراف مختلفة انعكست بوضوح على اقتصاد مدينة حلب. وسعياً لخلق موارد جديدة وبديلة لتعويض الخسائر والأضرار، انخرط العديد من زعماء العشائر - وعلى رأسهم قادة الميليشيات - في الأعمال المزدهرة ضمن اقتصاد الظل الجديد، إلى جانب متنفذين آخرين من خارج الوسط العشائري لباب النيرب، مثل قادة الميليشيات الأخرى والتجار الصاعدين من أبناء المدينة. ويحظى جميع هؤلاء وفي مقدمتهم أعضاء المكتب التنفيذي ومجلس الإدارة لغرفة تجارة حلب بدعم مباشر من الأجهزة الأمنية. ويمكن تصنيف الأعمال الرئيسية الأكثر ربحية اليوم ضمن أربعة مجالات هي:

أولاً: حماية التجار والصناعيين من أبناء المدينة عبر ردع دوريات الجمارك والمالية. حيث يستأجر التجار والصناعيون الطالبون للحماية مستودعات من أبناء العشائر في أحياء باب النيرب والمرجة والبلورة المتجاورة، وسواها من الأحياء الشرقية وبعض القرى المحيطة بحلب. تُخزَّن في هذه المستودعات بضائع تركية مهربة عبر مدينة منبج، تنقلها الفرقة الرابعة إلى مدينة حلب لصالح التجار والصناعيين من أبنائها، قبل أن تتولى عشائر باب النيرب تخزينها وحمايتها ونقلها فيما بعد إما إلى المعامل وورشات التصنيع، أو إلى منافذ البيع في الأسواق. ينشط قادة لواء الباقر ولواء زين العابدين بري في هذا المجال، حيث يستولون على مئات المستودعات التي تعود ملكيتها للاجئين ونازحين خارج سيطرة النظام.[43]

ثانياً: تجارة أو استثمار ممتلكات الغائبين، سواء كانت منازل أو محلات تجارية أو أراضي زراعية. إذ استولى عز الدين شعبان بري على مئات الدونمات في أماكن مختلفة حول مدينة حلب، وأجّرها لفلاحين أو باعها لمتمولين كبار مثل الإخوة قاطرجي. كذلك استغل عضو المكتب التنفيذي في مجلس محافظة حلب عيسى الإبراهيم (من العساسنة) ترؤسه لقطاع الزراعة ضمن المكتب ليستثمر - أو يتواطأ مع مستثمرين - في مئات الهكتارات من أراضي ريف حلب. وعوّض عمر عاشور (من البقارة)، وهو أحد أكبر تجار حديد البناء قبل الثورة، تراجع مردوده من هذه التجارة بالانتقال لتجارة المنازل الفخمة التي تعود ملكيتها لغائبين، ولا سيما في حي حلب الجديدة وجمعية المهندسين، حيث يملك عاشور اليوم أكثر من ٥٠ منزلاً في هذين الحيين الراقيين.[44]

ثالثاً: تجارة الخردة المعدنية والمقاولات المرتبطة بأعمال الأنقاض. وتعتمد هذه التجارة على كتل الركام الهائلة في الأحياء الشرقية التي تعرضت لقصف مدمّر طوال ٤ سنوات من وقوعها تحت سيطرة المعارضة. وقد بدأت أعمال الأنقاض في هذه الأحياء بحثاً عن الخردة المعدنية، ولا سيما حديد البناء والأبواب والشبابيك المعدنية. ويعمل في هذا المجال ابن أحد زعماء العساسنة وعضو مجلس الشعب محمد صبحي شيخ الضيعة، الذي يستخدم أسماء مقاولين شكليين لاحتكار العديد من العطاءات الحكومية. ففي آب ٢٠٢١، فاز شيخ الضيعة بعطاء طرحته مديرية الخدمات الفنية لاستثمار موقعَين لتجميع الأنقاض في الشيخ سعيد وتل الضمان،[45] وذلك بمبلغ ٢٦٠ مليون ليرة سورية (٧٥ ألف دولار تقريباً) ولمدة عامين، بعد أن استخدم اسم مقاول آخر.[46] في هذا المشروع المربح، لعبت المحسوبيات دورها بين أطراف عدة، مثل فرع المخابرات العامة وفرع المخابرات العسكرية اللذين يتابعان المشاريع الحكومية من خلال مكتب اقتصادي في كل منهما، بالإضافة إلى مجلسي المحافظة والمدينة ومديرية الخدمات.

رابعاً: ترويج المخدرات داخل مدينة حلب. فطوال فترة الحرب وما بعدها، تزايدت ظاهرة الإدمان على المخدرات والإتجار بها في المدن السورية المختلفة، وفي مقدمتها حلب،[47] حيث يتمتع حزب الله اللبناني بنفوذ كبير، وهو الحزب الذي يشغّل ويحمي شبكة مخدرات بين لبنان وسوريا. وقد بنى عدد من أبناء عشائر باب النيرب، ولا سيما من قادة الميليشيات القائمة أو المنحلة، علاقات خاصة مع شبكة المخدرات التابعة للحزب، ومنهم الإخوة العلوش من البقارة، وجاسم محمد بري قائد لواء زين العابدين بري، وخالد حسن الحمادة المعروف بـ"أبو حسن جديح" من العساسنة.[48]

ومع تراجع الإنتاج الصناعي إلى مستويات متدنية، والعقبات التي تعترض حركة التجارة الشرعية، وعلى رأسها العقوبات الدولية المفروضة، إضافة إلى العقبات البيروقراطية والضرائب والإتاوات الإجبارية، يبدو أن حجم اقتصاد الظل بقطاعاته المربحة يتجاوز حجم الاقتصاد الرسمي. وقد أتاحت هذه القطاعات فرص إثراء فعلية، وإن تكن نسبية بالمقارنة بفترة ما قبل الثورة، لبعض زعماء العشائر والمتنفذين من أبنائها. لكن النضوب التدريجي للموارد التي تغذي دورات اقتصاد الظل، بسبب حالة التردي الاقتصادي العامة، يطرح تساؤلات عن مدى استدامة المردود الفعلي لهذه الأعمال خلال الفترة القادمة. ولعل التراجع المتوقع لهذا المردود سيخلق حالات تنازع داخل المجموعات العشائرية، وقد يدفع بعض قادتها للبحث عن مجالات عمل جديدة خارج البلاد.

اتساع المكانة داخل العشيرة وفي محيطها

ترافق الصعود السياسي والاقتصادي للمجموعات العشائرية بصعود اجتماعي للزعيم داخل عشيرته نفسها، وللزعيم والعشيرة معاً بالنسبة للمجتمعات الأخرى. وقد أصبحت شروط الزعامة أشد استناداً على العلاقة بالسلطة خلال الحرب وبعدها. فإلى جانب شرطين دائمين للزعامة، هما الولاء المطلق للنظام والنشاط الاجتماعي المقترن بالنفع لأبناء العشيرة، أضافت الحرب شرطين آخرين هما تقديم الخدمات العسكرية من خلال الميليشيا، والملاءة المالية التي تسهل الالتحاق بشبكات المحسوبية الناشئة. ومن هنا تراجعت مكانة زعماء سابقين وتوطدت مكانة آخرين داخل كل عشيرة، فقد أصبح عدد متزايد من أبناء العشائر يرون في وجود زعيم قوي ونافذ بينهم ضرورة للتوسط بينهم وبين السلطة والمجتمعات الأخرى. وإلى حد كبير، كان أبناء شعبان بري يمثلون الزعامة القوية والمتنفذة قبل الثورة، وما يزالون يمثلونها حتى اليوم، رغم صعود أفراد آخرين من عشيرتهم يؤدون الوظيفة ذاتها في شؤون جزئية أو أقل أهمية. الشأن نفسه ينطبق على عشيرة البقارة، التي أصبح الكثير من أبنائها المقيمين في مناطق سيطرة النظام يجدون في خالد حسن العلوش وإخوته الأشخاص الأقدر على الحماية وتقديم المنافع. فمن الصعب اليوم على أي قوة أمنية أن تداهم منازل في حي البلورة، معقل البقارة الجديد، ما لم تنسق مسبقاً مع هؤلاء الزعماء وقادة الميليشيا التابعة لهم من أجل التفتيش أو إلقاء القبض على مطلوب أمني أو جنائي.

وبعد الانقسامات السياسية وموجات النزوح خارج مناطق سيطرة النظام، والتي أفقدت عشيرتي العساسنة والبقارة أجزاء وازنة من كتلتها العددية،[49] يبدو أن الروابط العشائرية تنشطت داخل المجموعات الموالية للنظام أو المقيمة في مناطق سيطرته. وبالإضافة إلى المكاسب المادية الكامنة وراء تنشيطها، تشكل هذه الروابط نوعاً من الحماية الذاتية التي يحتاجها الجميع أمام التهديدات والمخاطر المتنوعة التي أفرزتها الحرب، وعلى رأسها تراجع هيبة الدولة والقانون وتغول أجهزة الأمن والميليشيات.[50] وسواءً في حالة المكاسب أو الحماية، يبدو زعيم العشيرة ضرورياً لإدارة هذه الروابط وتفعيلها بما يحقق المصلحة المتبادلة بينه وبين أفراد عشيرته.

ومثلما عزّز تنشيط الروابط مكانة زعماء البقارة والعساسنة وبري داخل عشائرهم، عزّز أيضاً مكانتهم أمام العشائر والعوائل الأخرى في المدينة والريف.[51] فالأهم في علاقة العشائر الأخرى مع هؤلاء الزعماء هو النفوذ الذي يتمتع به الأخيرون في شبكات السلطة غير الرسمية، سواء ارتبطت بالنظام مباشرةً أو بحلفائه الإيرانيين. وهو ما يجعل التقرب من زعامات باب النيرب تقرباً من السلطة ذاتها بالنسبة لعشائر تعاني من الفقر والانقسام وتفتقر إلى ما يربطها بمراكز القرار والتأثير. ولعل في التدخلات الناجحة لبعض زعماء العساسنة والبقارة، سواءً لفض نزاعات أو عقد صلح بين عائلات أو مجموعات عشائرية متقاتلة، دلالات بارزة على اتساع مكانة وتأثير هؤلاء الزعماء خارج دوائر نفوذهم قبل الثورة. ومن هذه التدخلات الصلح الذي سعى به أيمن الجاسم، أحد زعماء العساسنة، في آب ٢٠٢١ بين عائلة حميدة من عشيرة النعيم وآل الدندن من عشيرة البوبنى.[52] وكذلك الصلح بين عائلتي غزال وحسن، المتنازعتَين أمام المحاكم بجريمة قُتل فيها اثنان من عائلة غزال،[53] بوساطة كل من خالد العلوش وخالد حسن الحمادة، أحد الزعماء الجدد في عشيرة العساسنة، في أيار ٢٠٢٠.[54]

وبالرغم من أن أبناء المجتمع المديني في حلب يحمّلون الجوار والمحيط العشائري والريفي مسؤولية الخراب الذي لحق بالمدينة، شاملين في ذلك حتى المجموعات العشائرية الموالية، إلا أنهم باتوا مضطرين لتوسيع علاقاتهم مع بعض العشائر بسبب الضعف الذي يعانون منه اليوم، بعدما فقدوا السند الذي كان يقدمه وسطاؤهم السابقون مع النظام - مثل كبار رجال الدين والتجار والصناعيين السابقين ممن تراجع نفوذهم أو غادروا البلاد خلال الحرب. وفي ظل عجز النظام عن خلق بيئة مادية وقانونية مناسبة لاستئناف أعمال الصناعة والتجارة، يلجأ الكثير ممن بقي في المدينة من التجار والصناعيين إلى زعماء المجموعات العشائرية في باب النيرب، طالبين حماية مأجورة من ابتزاز متنفذين آخرين في المدينة، أو التفافاً على الضرائب والرسوم الباهظة التي تفرضها الجمارك أو المالية، أو وساطة في شؤون أخرى لدى قادة أجهزة المخابرات. لكن خارج هذه العلاقة القائمة على المصلحة المتبادلة، لا يبدو أن أحداً من الطرفين يقترب من الثاني من خلال علاقات أخرى، فما يزال الجدار النفسي التاريخي قائماً بين الطرفين، يعززه احتقار مُضمَر لعالم باب النيرب العنيف والمتأخر كما يراه أبناء المدينة، ولامبالاة هذا العالم تجاه مجتمع المدينة المعقّد والمنغلق والرتيب بالنسبة لأبناء باب النيرب.[55]

خاتمة

أصبحت عشائر باب النيرب أشدّ قوةً ونفوذاً في بيئة تزداد ضعفاً وهشاشةً منذ ٢٠١١. فبعد ست سنوات تقريباً من استعادة النظام سيطرته على كامل مدينة حلب، وتلاشي التهديدات التي كانت تشكلها فصائل المعارضة المسلحة، ما تزال المدينة مكبّلة بمخلّفات الحرب من عمران مدمّر ومجتمع منقسم ومنسحق تحت ضغط الأزمات المتعاقبة. وما يزال النظام، رغم قوته الأمنية، عاجزاً عن ضبط شبكات المحاسيب المتنوعة المرتبطة به أو بحلفائه الإيرانيين،[56] أو عن استعادة أو ترميم قواه الشرعية التي كان يستمدها في الماضي من الدولة. فقد فقدت المؤسسات الحكومية قدرتها على تقديم الخدمات للسكان، وفيما عدا الفئات الأشد ضعفاً من سكان المدينة، فقدت أجهزة إنفاذ القانون - متمثلةً بالجهاز القضائي وجهاز الشرطة - قدرتها على استعادة هيبة الحكم، في حين يواصل المتنفّذون الاستخفاف بالدولة وخرق قوانينها والإضرار بمصالحها.

أدى ذلك لفقدان النظام احتكار القوة على المستوى المحلي، ليشاركه فيها وعلى نحو ثانوي حلفاؤه وأتباعه المحليون، ولا سيما ضمن الأحياء التي تتركز سطوتهم فيها داخل المدينة أو على أطرافها. فمع افتقاره لسياسة تُصلح علاقته بالمجتمع، وميله إلى الارتجال أمام الأزمات والاستحقاقات التي تواجهه، تمكنت الشبكات المرتبطة به من انتزاع أدوار مهمة مع كل أزمة واستحقاق. ساهم كل ذلك في صعود مجموعات عشائرية موالية لا ينتظرها أي تهديدات من جانب النظام. وقد اتسم هذا الصعود بضعف اندماج بين هذه المجموعات والأطر الرسمية التابعة للدولة، تعزّزها نظرة متوارثة لدى أبناء العشائر تجاه الدولة بأنها مجرد قوانين ومؤسسات تثير المتاعب وتفرض القيود، والأفضل التمّلص منها في حال كانت حاضرة ومؤثرة كما في الماضي، أو تجاهلها كليةً في حال كانت محطمة وعاجزة كما في الحاضر.

ورغم أهمية الأنشطة الاقتصادية في إثراء الزعماء وخلق الوظائف، إلا أن العشائر تدين في صعودها للميليشيات المنبثقة عنها، والتي زادت مكانتها خلال سنوات الحرب على وجه خاص، وشكلت إطار تعبئة جدّدت فيه روابطها الداخلية. والأهم أن هذه الميليشيات شكلت فرصة لخلق شراكة مع النظام وتجديد التحالف معه، وفق تبادل موجّه لخدمة زعماء العشيرة ورجال السلطة، وليس بالضرورة أبناء المجموعة العشائرية أو مؤسسات الدولة.

وبغض النظر عن التباينات الاقتصادية بين أفراد النخبة العشائرية الحالية، إلا أن التدهور المستمر في الاقتصاد السوري قد يخلق تحديات مستقبلية لهم. فتعطل الإنتاج وتباطؤ الحركة التجارية الطبيعية، وهروب رؤوس الأموال الكبيرة إلى الخارج، كلها تهدّد بنضوب الينابيع التي تغذي جزئياً اقتصاد الظل الذي ينشط فيه أفراد هذه النخبة. قد يتسبب ذلك بتغيير علاقاتهم مع مراكز القوى الداعمة لهم، وبنشوء نزاعات فيما بينهم وربما داخل عشائرهم ذاتها. وقد يدفع ذلك ببعضهم إلى الانسحاب من المجال العام والاكتفاء بما جُمع سابقاً، أو إلى البحث عن مجالات استثمار وعمل - شرعية أو غير شرعية - خارج البلاد.

 

المرفقات

المخطط ١: فروع عشيرة العساسنة وبعض عائلاتها البارزة


المصدر: المؤلف

المخطط ٢: فروع عشيرة برّي وامتدادها في السلالة الرئيسية


المصدر: المؤلف

المخطط ٣: فروع عشيرة البقارة في مدينة حلب


المصدر: المؤلف

 

 * زياد عواد صحفي وباحث سوري يعمل ضمن المشروع البحثي "زمن الحرب وما بعد الصراع في سوريا" في برنامج مسارات الشرق الأوسط، والذي يشرف عليه مركز روبرت شومان للدراسات العليا بالجامعة الأوروبية في فلورنسا. يركز عمله على المناطق الشرقية في سوريا.

 

[1] خضر خضور، "منهكة بالحرب: نهاية النظام السياسي لحلب وشمال سوريا" (بالإنكليزية)، مؤسسة فريدريش إيبرت، تشرين الأول ٢٠١٧، https://bit.ly/3miFoUK

[2] مثل قرى عسان وتركان وتل شغيب جنوب شرق المدينة.

[3] خلال مرحلة الاستقرار أو الانتقال من البداوة إلى الحضر، وصلت طلائع عشائر باب النيرب إلى مدينة حلب، العريقة والكبيرة والغنية، على شكل أفراد أو عائلات ومجموعات صغيرة متفرقة، لتحيي لاحقاً الروابط العشائرية فيما بينها أو تصنعها. كما نشأت الزعامة وسط هذه العشائر بعد استقرارها في المدينة، وتحولت في كثير من الحالات من زعامة حارة أو حي إلى زعامة عشائرية، ولا سيما بعد ازدياد الوافدين من أبناء العشائر إلى المدينة.

[4] عزمي بشارة "سورية: درب الآلام نحو الحرية، محاولة في التاريخ الراهن" (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، آذار ٢٠١٣)، ص٣٤٤.

[5] بسبب اختلافها عن العشائر الريفية وعشائر البادية، التي يطلق على رؤسائها لقب شيوخ، والتي تتمتع بخصائص مختلفة عن عشائر باب النيرب، فضّل الباحث استعمال مصطلحات زعماء وزعيم وزعامة، وهي ذات دلالة أوسع وأقرب إلى النمط السائد في قيادة عشائر باب النيرب. فالزعامة هنا ليست وراثية بالضرورة، بخلاف زعامات عشائر الجزيرة والفرات التي استوطنت أريافاً فقيرة غالباً، وعلى شكل مجموعات كبيرة وكاملة، نقلت معها في معظم الحالات روابطها ورئاساتها المشيخة المتوارثة من عهد الترحال إلى عهد الاستقرار.

[6] لقاء مع سعد الله بري، أحد وجهاء العائلة، أيلول ٢٠٢١.

[7] في بعض الكتب التاريخية، يُذكَر أجداد شعبان بري كوجهاء وزعماء في حي باب النيرب. انظر كامل الغزي، نهر الذهب في تاريخ حلب (حلب، المطبعة المارونية بحلب)، الجزء الثاني، ص٤٥٦.

[8] بفضل هذه الصلات حينذاك، انتقلت زعامة العائلة من رجب بن محمود بري، الذي عاصر تجربة الحكومات الوطنية بعد الاستقلال وظل محتفظاً بإعجابه وتأييده لتلك التجربة، إلى أخيه شعبان، الذي جسد النموذج الجديد للزعيم العشائري. فقد كان شعبان أميّاً ومتحللاً من القيم والعادات المحافظة، وكان أشد عنفاً من أسلافه وأشد اعتماداً على علاقاته بالسلطة.

[9] لقاء مع هايل بري، أحد أقرباء زينو، في أيلول ٢٠٢١.

[10] لقاء عبر الإنترنت مع صديق سابق للحمد من عشيرة البقارة، أيلول ٢٠٢١.

[11] منذ أربعينات وخمسينات القرن الماضي، نشأت زعامتان منفصلتان لعشيرة البقارة في حلب: الأولى في باب النيرب لتاجر المواشي حمود المرعي، والد سطوف، على أبناء العشيرة المستوطنين في المدينة؛ والثانية لوكيل عائلة المدرس الإقطاعية جاسم الحمادين، ثم أبنائه من بعده، على أبناء العشيرة المقيمين في عدة قرى في محيط المدينة.

[12] تجنباً لتورطه الشخصي في موقف لصالح النظام، أرسل المرعي أحد أبنائه بدلاً عنه ضمن هذا الوفد. لقاء مع أحد أقارب سطوف المرعي، تشرين الأول ٢٠٢١.

[13] حتى وفاته في ٢٠٢١.

[14] منذ ٢٠١٦، تأسس العديد من المجالس العشائرية بين المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة والأراضي التركية، والتي تهدف إلى التعبئة ضد النظام وضد الإدارة الذاتية. وكان أبرزها مجلس العشائر والقبائل السورية الذي تأسس مطلع ٢٠١٧.

[15] لقاء مع محمد جبر عبود المنحدر من عشيرة البقارة، وهو تاجر خضار سابق ثم مسؤول في الهيئة الشرعية للواء التوحيد، أكبر فصائل الجيش الحر في محافظة حلب، أيلول ٢٠٢١.

[16] لقاء مع خالد قدرية أحد زعماء عشيرة العساسنة، أيلول ٢٠٢١.

[17] تألفت تنسيقية حي طريق الباب من عشرة أعضاء، ٦ طلاب جامعيين، ومدرس لغة عربية، وسائق، وإسكافي، وحداد. لقاء عبر الإنترنت مع عدنان غجر، أحد الناشطين في التنسيقية، تشرين الأول ٢٠٢١.

[18] لقاء مع عبد القادر حج موسى، من عشيرة العساسنة، وهو أحد المنظمين لأول مظاهرة في حي المرجة، أيلول ٢٠٢١.

[19] لقاء عبر الإنترنت مع قيادي سابق في ميليشيا منحلة قاتلت في مدينة حلب، تشرين الأول ٢٠٢١.

[20] كان منهم مثلاً بعض الموقعين على بيان يساند النظام صدر باسم عشيرة البقارة في مدينة حلب في نيسان ٢٠١١.

[21] تم أسر زينو بري ثم قتله على يد الجيش الحر بعد دخول فصائله باب النيرب في تموز ٢٠١٢.  زمان الوصل، "إعدام زينو، الحر يعتقل شيوخ آل بري بعد نقضهم الهدنة"، ٣١ تموز ٢٠١٢، https://bit.ly/3BmR9hG

[22] ماجدي البسيوني، "القلعة: حلب من الحصار إلى الانتصار" (دمشق، دار الشرق للطباعة والنشر، ٢٠١٨)، ص١٨٩.

[23] وفق أسعار صرف الليرة السورية صيف العام ٢٠٢١. المصدر: لقاء عبر الإنترنت مع قيادي سابق في ميليشيا منحلة، أيلول ٢٠٢١.

[24] لقاء عبر الإنترنت مع أحد أبناء البقارة المقربين من قادة اللواء، أيلول ٢٠٢١.

[25] نظمت عشائر باب النيرب العديد من الاحتفالات تأييداً لبشار الأسد خلال حملته الانتخابية وبعد إعلان فوزه، كما فعلت عشيرة العساسنة مثلاً. انظر: الجماهير، "خيمة وطن ابتهاجا بإنجاز الاستحقاق الرئاسي"، ٢٩ أيار ٢٠٢١،https://bit.ly/3FQDP7F

[26] الجماهير، "ملتقى القبائل والعشائر السورية والنخب الوطنية بحلب: دعم المقاومة الشعبية في الجزيرة ضد المحتل ومرتزقته حتى طردهم... الرفض القاطع لأي وجود أجنبي غير شرعي على الأرض السورية"، ٢٠ آب ٢٠٢٠، https://bit.ly/3btKN5H

[27] في الخرائط الرسمية يحمل حي باب النيرب تسمية حي محمد بك.

[28] بلغ عدد سكان حلب في ذلك العام ٢.٤ مليون نسمة.

[29] زياد عواد وأغنيس فافييه، "الانتخابات في زمن الحرب: مجلس الشعب السوري ٢٠١٦-٢٠٢٠"، تقرير مشروع بحثي (فلورنسا، معهد الجامعة الأوربية، برنامج مسارات الشرق الأوسط، مشروع زمن الحرب وما بعد الصراع في سوريا)، نيسان ٢٠٢٠، https://bit.ly/3GAHRm6

[30] من البقارة: عمر حسين العلوش، وعدنان عبد الوهاب الحمد من منبج ضمن دائرة مناطق محافظة حلب؛ ومن العساسنة: أحمد حسين الحمرة، ومحمد صبحي شيخ الضيعة، وحسن شهيد، وطه الحاج علي ضمن دائرة مناطق محافظة حلب، وسلوم السلوم ضمن دائرة محافظة حلب التي تمثل المدينة؛ وحسن شعبان بري عن نفس الدائرة ممثلاً لآل بري.

[31] أغنيس فافييه وماري كوسترز، "الانتخابات المحلية: هل تتجه سوريا نحو إعادة إحكام السيطرة المركزية؟"، تقرير مشروع بحثي (فلورنسا، معهد الجامعة الأوربية، برنامج مسارات الشرق الأوسط، مشروع زمن الحرب وما بعد الصراع في سوريا)، شباط 2019، https://bit.ly/3nGz1dx

[32] عز الدين حسين شعبان بري ومحمود حسن العلوش.

[33] جوزيف ضاهر، "غرف التجارة السورية في العام ٢٠٢٠: صعود نخبة جديدة من رجال الأعمال"، تقرير مشروع بحثي (فلورانسا، معهد الجامعة الأوربية، برنامج مسارات الشرق الأوسط، مشروع زمن الحرب وما بعد الصراع في سوريا)، نيسان ٢٠٢١، https://bit.ly/3ldudw9

[34] هو لؤي إبراهيم إبراهيم، المنحدر من عائلة عيسى، والذي عمل سائقاً لشاحنة تملكها أسرته في تسعينات القرن الماضي، قبل أن يمتلك شاحنته الخاصة دون أن يصبح ثرياً على مستوى عشيرته حتى ٢٠١١. بعد ذلك، تنقل إبراهيم بين أعمال عدة بالسمسرة للإفراج عن معتقلين بمقابل مالي، وبتجارة المواد الغذائية ثم تجارة مواد البناء. لقاء عبر الإنترنت مع أحد وجهاء عشيرة العساسنة، تشرين الأول ٢٠٢١.

[35] بين ٢٠٠٨ و٢٠١٢، شغل ملحم منصب نائب رئيس فرع المخابرات العسكرية في محافظة حلب.

[36] ماجدي البسيوني، مصدر سابق، ٧٩.

[37] في مؤشر على الأهمية المتزايدة لضباط الجيش بنظر أبناء العشائر، ترأس عضو مجلس الشعب عمر الحسن وفداً من عشيرة البقارة للتهنئة بترفيع ضابطين شابين برتب صغيرة في قرية الأكرمية. انظر: صفحة عمر الحسن على فيسبوك، "بوفد من قبيلة البقارة، نبارك للأخ والعم أبو علي بترفيع أبنائه الأبطال، النقيب علي شناعة، الملازم أول كاظم شناعة، ألف مبروك.."، فيسبوك، ٤ كانون الثاني ٢٠١٩، https://bit.ly/3mpAvcV

[38] مثل قرى المليحية وحريبل وعين عسان وتل عابور.

[39] لقاءات عبر الإنترنت مع ثلاثة من أبناء عشيرة البقارة، أحدهم قريب الإخوة علوش، تشرين الأول ٢٠٢١.

[40] ثمة أرض شاسعة هناك تعرف بكروم آل بري. أنظر: ماجدي البسيوني، مصدر سابق، ١٧٧.

[41] لقاء مع عبود الموسى، مالك سابق لشركة شحن بري في مدينة حلب، آب ٢٠٢١؛ ولقاءات أخرى مع أشخاص من عشيرة العساسنة.

[42] لقاء مع مقاول سابق بأعمال تحميل وشحن الحبوب في مراكز التخزين، ينتمي لعشيرة العساسنة، آب ٢٠٢١.

[43] لقاء عبر الإنترنت مع تاجر من مدينة حلب، تشرين الأول ٢٠٢١.

[44] لقاء مع صديق سابق للعاشور من أبناء عشيرة البقارة، أيلول ٢٠٢١.

[45] صفحة مديرية الخدمات الفنية بحلب، "إعلان مزايدة علنية للمرة الأولى لاستثمار الخردة والمواد الممكن إعادة تدويرها"، فيسبوك، ٢ آب ٢٠٢١، https://bit.ly/3nBhXFT

[46] لقاء مع صديق لشيخ الضيعة من عشيرة العساسنة، أيلول ٢٠٢١.

[47] المرصد السوري لحقوق الإنسان، "على غرار باقي المناطق السورية.. ترويج وبيع المخدرات عبر وسطاء سوريون بغطاء ودعم من قادة الميليشيات الموالية لإيران يتصاعد في مدينة حلب"، ١٤ أيلول ٢٠٢١، https://bit.ly/3CpbhB6

[48] لقاءات مع خمسة أشخاص من أبناء العشائر في مدينة حلب.

[49] يقدر وجهاء وناشطون من عشيرة العساسنة نسبة أبنائها اللاجئين في تركيا والنازحين في مناطق سيطرة المعارضة بمحافظتي حلب وإدلب بنصف أبناء العشيرة تقريباً، فيما يبلغ اللاجئون والنازحون من البقارة حوالي ثلث العشيرة وفق تقديرات مشابهة.

[50] تشمل هذه المخاطر حتى كبار المسؤولين المدنيين، فقد تعرض نائب محافظ حلب في شهر آب ٢٠٢١ لإطلاق نار من شبان من عائلة عفر التابعة لآل بري. انظر: البعث ميديا، "نائب محافظ حلب يتعرض إلى إطلاق نار والداخلية توضح ملابسات الاعتداء"، ١٠ آب ٢٠٢١، https://bit.ly/2Zxuwu8

[51] مثل عشائر البوبطوش والكيار وبني زيد والمشاهدة.

[52] صفحة أحمد صادق حيدر، "كلمة الشيخ حسين الجاسم من وجهاء عشيرة العساسنة بالنيانة عن القائمين بالصلح قبيلة الدليم، عشيرة العساسنة، نحمد الله تم الصلح بين اخوتنا قبيلة السادة النعيم آل حميدة وآل نعساني واخوتنا قبيلة البوشعبان، عشيرة البوبنى، آل الدندن"، فيسبوك، ١٥ آب ٢٠٢١، https://bit.ly/3lgsvd8

[53] صفحة أبو حسن جديح دوشكا، صورة عقد الصلح بين العائلتين، فيسبوك، ١٧ أيار ٢٠٢٠، https://bit.ly/3I15kNZ

[54] تنقل خالد حسن الحمادة قبل الثورة بين أعمال مختلفة، من بائع حلويات جوال، ثم بائع دجاج، ثم مروج مخدرات. وبعد الثورة قاد مجموعة شبيحة من أبناء عائلته، تحولت إلى مجموعة مقاتلة خلال الحرب. لقاءان مع اثنين من أبناء عشيرة العساسنة، تشرين الأول ٢٠٢١.

[55] جان كلود دافيد، "حلب مدينة دائمة في التاريخ"، ترجمة بدر الدين عرودكي، معهد العالم للدراسات، شباط ٢٠١٧، https://bit.ly/2Wjg1rY

[56] يبدو الروس غير مبالين بخلق شبكات خاصة على مستوى مدينة حلب، رغم رعايتهم للواء القدس الفلسطيني الذي تأسس وسط اللاجئين الفلسطينيين في مخيم النيرب جنوب شرق مدينة حلب.

من نحن

  •  

    أسَّسَ مركز روبرت شومان للدراسات العليا في معهد الجامعة الأوروبية برنامج مسارات الشرق الأوسط في العام ٢٠١٦، استكمالاً للبرنامج المتوسّطي الذي وضع المعهد في طليعة الحوار البحثي الأورومتوسّطي بين العامَين ١٩٩٩ و ٢٠١٣.

    يطمح برنامج مسارات الشرق الأوسط إلى أن يصبح جهة مرجعية دولية للأبحاث التي تتعلّق بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتي تنظر في التوجّهات والتحوّلات الاجتماعية-السياسية، والاقتصادية، والدينية. ويسعى البرنامج إلى تحقيق هدفه هذا من خلال تشجيع البحث متعدّد التخصّصات بناءً على نتائج العمل الميداني، والتعاون مع باحثين من المنطقة. ويفيد البرنامج من خبرة باحثين ناطقين بلغات المنطقة الرئيسة، بما فيها العربية الفصحى والعامية، والفارسية، والطاجيكية، والتركية، والروسية.

    للمزيد ...
Funded by the European Union