Home page

يمكن تنزيل منشورات المشروع لأغراض البحث الشخصية فقط. إن أيّ استنساخٍ إضافيّ لأغراض أخرى، سواء على شكل نسخ مطبوعة أم إلكترونية، يتطلّب موافقة المؤلّفين.
أما في حال الاستشهاد بالنص أو اقتباسه، فيجب الإشارة إلى الأسماء الكاملة للمؤلّفين والمحرّرين، إضافةً إلى العنوان، والسنة التي نُشِر فيها، والناشر.

الحلقة الجهنّمية في سوريا تتواصل: الآثار الاقتصادية للغزو الروسي لأوكرانيا

  • الكاتب: جوزيف ضاهر
  • التاريخ: الإثنين, 28 آذار 2022
  • ترجمة: مايا صوّان

 مقدّمة

لا شكّ في أن غزو روسيا لأوكرانيا في أواخر شباط ٢٠٢٢، هو الحدث التاريخي الأبرز، من ناحية العواقب العالمية التي تبعته، منذ غزو العراق واحتلاله من الولايات المتحدة وبريطانيا في العام ٢٠٠٣. فناهيك عمّا أسفرت عنه الحرب الأوكرانية من تبعاتٍ إنسانيةٍ كارثيةٍ على شرق أوروبا، ألقت الحرب أيضاً بظلالها على الاقتصاد العالمي، ولا سيما أسواق السلع حيث أسعار النفط والغاز في ارتفاعٍ متسارع. يوفّر كلٌّ من روسيا وأوكرانيا ما يناهز ثلث صادرات العالم من القمح، وما يزيد عن ٧٠ في المئة من صادرات زيت دوّار الشمس، و٢٠ في المئة من الذرة، و٢٦،٦ في المئة من الشعير، و١١ في المئة من النفط، في حين تُعَدّ روسيا أحد أهمّ مورّدي السماد والمواد الخام ذات الصلة مثل الكبريت في العالم. ولكن منذ الغزو، أوقفت المرافئ على البحر الأسود جميع أشكال النشاط التجاري تقريباً، ما تسبّب بارتفاع تاريخي في أسعار القمح، التي تخطّت المستويات المُسجَّلة أثناء أزمة الغذاء العالمية في العامَين ٢٠٠٧ و٢٠٠٨. كذلك حظّرت روسيا وأوكرانيا صادرات القمح مؤقّتاً. وتلفت دراسةٌ نشرتها منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي في آذار ٢٠٢٢، إلى أن "التحرّكات في أسعار السلع والأسواق المالية التي سُجّلَت منذ اندلاع الحرب، يمكن أن تؤدّي، إذا ما استمرّت، إلى تراجع نموّ الناتج المحلي الإجمالي العالمي بأكثر من ١ في المئة في السنة الأولى، وإلى ركود عميق في روسيا، كما يمكن أن تزيد تضخّم أسعار الاستهلاك في العالم بحوالى ٢،٥ في المئة".

 وسوريا ليست بمنأى عن هذه الديناميات العالمية والضعف الاقتصادي لروسيا. فاعتماد النظام السوري على روسيا اقتصادياً ازداد عقب تدخّلها العسكري في سوريا في العام ٢٠١٥،  وإن كانت لم تضطّلع بدور الداعم المالي لدمشق.

العلاقات الاقتصادية والتجارية الروسية-السورية

شهدت العلاقات التجارية بين موسكو ودمشق تراجعاً إثر اندلاع الانتفاضة السورية في العام ٢٠١١، حيث انخفض حجم التبادلات التجارية من ١،١ مليار دولار في العام ٢٠١٠، إلى ١٩٨ مليون دولار في العام ٢٠٢٠، ما يمثّل ٣،٧ في المئة فقط من إجمالي الواردات السورية. جاء هذا التراجع نتيجة التعليق شبه التامّ لصادرات النفط الروسي إلى سوريا، بعد العقوبات الغربية التي فُرِضَت على قطاع النفط فيها، وانخفاض صادرات الأسلحة الروسية (أو على الأقلّ تلك المُسجَّلة رسمياً). مع ذلك، أصبحت روسيا المورّد الرئيسي للقمح إلى سوريا عقب التراجع الهائل الذي شهده الإنتاج المحلي السوري نتيجة الصراع. فقد ارتفعت كمّية القمح الروسي المُورَّد إلى سوريا سنوياً من ٦٥٠ ألف طنّ في العام ٢٠١٥، إلى ما يتراوح بين ١ و١،٥ مليون طنّ في السنة مذّاك الحين. وفي العام ٢٠٢١، استوردت سوريا ١،٢ مليون طنّ من القمح بما قيمته ٣١٠ ملايين دولار، علماً أن حاجة البلاد السنوية تُقدَّر بحوالى ٤،٥ ملايين طنّ (يذهب ٣،٥ ملايين طنّ منها إلى الاستخدام الغذائي). وبينما تحتاج سوريا إلى ما يناهز المليونَي طنّ من القمح سنوياً، قُدّر إنتاجها من القمح في العام ٢٠٢١ بحوالى ١،٠٥ مليون طنّ، وهي كمّيةٌ انخفضت من الكمّية البالغة ٢،٨ مليون طنّ في العام ٢٠٢٠، والتي لم يُنتَج منها في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة سوى ٠،٨ مليون طنّ تقريباً.

 تعتمد سوريا أيضاً اعتماداً كبيراً على روسيا وأوكرانيا للحصول على الأعلاف، خصوصاً الذرة الصفراء، والشعير، وفول الصويا. فوفقاً لمدير المؤسسة العامة للأعلاف، عبد الكريم شباط، تستورد هذه الأخيرة الأعلاف من روسيا، فيما يتولّى تجّارٌ من القطاع الخاص استيرادها من أوكرانيا وبلدان أخرى. على سبيل المثال، استوردت دمشق الذرة من أوكرانيا بقيمة ٨ ملايين دولار في العامَين ٢٠١٩ و٢٠٢٠، من أصل ١١٧ مليون دولار من الذرة المُورَّدة إلى سوريا، وفقاً لقاعدة بيانات الأمم المتحدة لإحصاءات التجارة الدولية.

 كذلك أبرمت دمشق وموسكو اتفاقات في مجالَي الطاقة والبناء. فعقب العام ٢٠١٥، وسّعت الشركات الروسية نطاق حضورها في سوريا، ولا سيما في قطاع الطاقة. مذّاك الحين، عمدت الجهة المُقاوِلة الروسية الرئيسية، شركة ستروي ترانس غاز لوجستيك (STG)، التي بدأت العمل في سوريا في العام ٢٠٠٥، ثم خضعت للعقوبات الأميركية في نيسان ٢٠١٤ بسبب دور روسيا في أوكرانيا، إلى تنويع استثماراتها، موقّعةً في العامَين ٢٠١٨ و٢٠١٩ ثلاثة عقود رئيسية أتاحت لها الإشراف على السلسلة الكاملة لإنتاج الفوسفات، ونقله وتصديره من مناجم حمص إلى مرفأ طرطوس. وقد استفادت شركات روسية أخرى أيضاً من نفوذ موسكو في سوريا، وإن لم يكن بالدرجة نفسها كشركة STG.

 على الرغم من ذلك، لا يزال دور روسيا الاقتصادي واستثماراتها في سوريا محدودَين، وسيبقيان كذلك على الأرجح نظراً إلى التحدّيات السياسية والاقتصادية التي تواجهها روسيا جرّاء العقوبات المفروضة عليها، وآثار الحرب في أوكرانيا. فلا يخفى أن الاقتصاد الروسي كان في الأصل هشّاً وضعيفاً. أما الإعلان الأخير عن إبرام عقدٍ، في منتصف آذار ٢٠٢٢، بين شركة الطاقة الروسية "روس إنرغو ستروي بلاد الشام" (Ros EnergoStroy Levant (RESL))، ومستثمرين روس وسوريين-روس، من جهة، وبين دمشق من جهة أخرى، لبناء محطّةٍ لتوليد الكهرباء بالتوربينات الغازية بقدرة ٢٥ ميغاواطاً في مدينة الشيخ نجار الصناعية في حلب، فلا يمكن النظر إليه على أنه إثباتٌ لقدرة موسكو على المحافظة على استثماراتها في البلاد أو توسيعها. لقد منحت دمشق الحكومة الروسية والمستثمرين الروس منذ العام ٢٠١١ العديد من الاتفاقات والعقود لبناء محطات كهرباء وتوربينات وترميمها، إلا أن أيّاً منها لم يُنفَّذ بعد بسبب افتقار الحكومة السورية إلى التمويل اللازم.

أخيراً، ستُرخي العقوبات المفروضة على النظام المالي الروسي ببعض التداعيات على سوريا، خصوصاً على شبكات رجال الأعمال المرتبطين بالقصر الرئاسي. منذ العام ٢٠١١، رحّبت المؤسسات المصرفية الروسية باحتفاظ مصرف سوريا المركزي بالودائع الأجنبية، بعد العقوبات التي فرضتها الدول الغربية على قطاع سوريا المصرفي. لقد شكّل ذلك ملاذاً وبديلاً ماليَّين لرجال أعمال سوريين وأفراد من الأسرة الحاكمة. لا يُعرَف حجم الأموال السورية المودَعة في المؤسسات المالية الروسية الخاصة، ولكنّ استخدام النظام المصرفي الروسي للتواصل مع العالم الخارجي كان ضرورياً للحكومة السورية وبعض المحاسيب التابعين للنظام، خصوصاً أن العقوبات قطعت علاقات سوريا بجزءٍ كبيرٍ من النظام المصرفي العالمي. والآن سيؤدّي فصل المصارف الروسية عن نظام "سويفت" للتحويلات الدولية إلى تعقيد قدرة المصارف الروسية، وبالتالي قدرة مستخدميها السوريين، على القيام بأنشطة دولية.

الآثار على الاقتصاد السوري على المديَين القصير والطويل

بينما يمكن من الآن ملاحظة الآثار الاقتصادية للحرب الأوكرانية على مختلف المستويات في أرجاء سوريا كافّة، يمكن أيضاً توقّع تأثيرات أخرى في المستقبل القريب، وعلى المدى المتوسّط. فقد شهدت بالفعل أنواع مختلفة من السلع المرتبطة بإنتاج القمح والطحين، مثل الزيت النباتي، والسمن النباتي، والذرة الصفراء، وفول الصويا، ومواد أخرى (الجدول ١)، ارتفاعاتٍ سريعةً في الأسعار في الأسواق. على سبيل المثال، وصل سعر المازوت مجدداً إلى ٥ آلاف ليرة سورية (ما يعادل دولارَين بحسب سعر الصرف الرسمي البالغ ٢٥١٢ ليرة مقابل الدولار) للّيتر الواحد في السوق السوداء في مناطق مختلفة من البلاد، بدلاً من متوسّط السعر البالغ ٣٥٠٠ ليرة (ما يعادل ١،٤ دولار)، وذلك كما حصل في فترات سابقة حينما شهدت البلاد مستويات شحّ مرتفعة. وهذه الزيادة تبلغ نسبة ٤٣ في المئة.

 وقد رفعت المؤسسة السورية للتجارة أيضاً أسعار بعض المنتجات المدعومة بسبب ارتفاع أسعار الأعلاف عالمياً نتيجة الأزمة الأوكرانية.

الجدول ١: الفروق بين أسعار السوق للسلع في ٢٤ شباط و١٧ آذار في المناطق التابعة للنظام 

 

ليتر الزيت النباتي

كيلو السمن النباتي

كيلو مسحوق فول الصويا

كيلو الذرة الصفراء

كيلو الأرزّ

طنّ الحديد

السعر في ٢٤ آذار ٢٠٢٢ (بالليرة السورية)

٩٥٠٠

١٠٥٠٠

٢١٠٠

١٥٠٠

٦٥٠٠

٣،٤ ملايين

السعر في ١٧ شباط ٢٠٢٢ (بالليرة السورية)

١٥٠٠٠ - ١٦٠٠٠

١٦٠٠٠

٣٠٠٠ - ٣٥٠٠

٢٥٠٠ - ٢٨٠٠

٧٥٠٠

٣،٩ ملايين

نسبة الزيادة

%٥٨ - %٦٨

%٥٧،١

%٤٣ - %٦٧

%٦٦،٧ - %٨٦،٧

%١٥،٤

%١٤،٧

المصدر: المؤلّف

هذه الحال هي نفسها في الشمال الغربي الذي يستورد معظم هذه الموارد من أوكرانيا وروسيا، حيث أسعار الطحين والنفط المستوردَين من تركيا، وعدد من المنتجات الأخرى، بما فيها السكر، والزيوت النباتية، والسمن، والحبوب، ارتفعت أيضاً منذ اندلاع الحرب الأوكرانية. كذلك حظّرت أنقرة في الآونة الأخيرة شراء هذه المنتجات في الأسواق التركية المحلية، وأوقفت تصدير الحبوب، والبذور الزيتية، وزيت الطهي، والسلع الزراعية الأخرى، التي يجري تخزينها في مستودعات جمركية في الموانئ البحرية التركية. هذا ويعاني الشمال الشرقي أيضاً من دينامياتٍ مماثلةٍ مع ارتفاع أسعار السلع الأساسية، وخطر حدوث شحّ، نظراً إلى أن الغالبية العظمى من سلع المنطقة تُستورَد.

يرتبط هذا الارتفاع العام في النفقات بعوامل مختلفة، إضافةً إلى انعدام الاستقرار في الأسواق الدولية. فهو يُعزى في المقام الأول إلى ارتفاع سعر النفط إلى ما يزيد عن ١٠٠ دولار للبرميل للمرّة الأولى منذ العام ٢٠١٤. صحيح أن دمشق تستورد معظم نفطها من طهران، إلا أن ارتفاع أسعار النفط كان له تأثير على تكاليف شحن السلع المستوردة، حيث أصبحت نفقات النقل أعلى، وارتفعت أيضاً تكلفة التأمين في هذا القطاع. والواقع أن رسوم الشحن بدأت ترتفع في السنة الماضية، حيث قُدّرَت مثلاً تكلفة نقل حاويةٍ من الصين إلى سوريا بحوالى ٣ آلاف دولار قبل عام، مقارنةً بما يزيد عن ١٠ آلاف دولار اليوم. في موازاة ذلك، شهدت الليرة السورية في الأسابيع التي أعقبت اندلاع الحرب في أوكرانيا، انخفاضاً جديداً في قيمتها من ٣٦٨٠ ليرة مقابل الدولار في ٢٤ شباط، إلى ٤ آلاف ليرة مقابل الدولار في ١٧ آذار. واستمرّ تراجع قيمة الليرة التركية أيضاً مقابل الدولار، الأمر الذي طال تأثيرُه شمال غرب سوريا. هذه العوامل كلّها أدّت إلى ارتفاعٍ في تكلفة الإنتاج، ولا سيما في قطاعَي التصنيع والزراعة، وبالتالي في تكلفة المعيشة.

فضلاً عن ذلك، يأتي هذا الارتفاع الجديد في الأسعار بعد عامٍ من الزيادات المتواصلة في تكلفة المنتجات الغذائية الأساسية. ومن المحتمل أن يشهد الإنتاج المحلي تراجعاً جرّاء تدنّي درجات الحرارة في الأسابيع القليلة الماضية. يُذكَر أن متوسّط السعر الوطني لسلّة الغذاء المرجعية المعيارية لبرنامج الأغذية العالمي ارتفع بنسبة ٢ في المئة من كانون الثاني إلى شباط ٢٠٢٢، ووصل إلى ٢٣١٠٠٤ ليرات (ما يعادل ٩٢،٤ دولاراً). وكانت نسبة ارتفاع متوسّط السعر الوطني لسلّة الغذاء ٣٤ في المئة منذ آب ٢٠٢١، و٧١ في المئة منذ شباط ٢٠٢١، علماً أن سعر سلّة الغذاء المرجعية في شباط ٢٠٢٢ كان أعلى متوسّطٍ شهري جرى تسجيله على الإطلاق منذ البدء بمراقبة السعر في العام ٢٠١٣. وكانت صحيفة الوطن الموالية للنظام السوري قد كشفت، في هذا السياق العام من ارتفاع الأسعار، أن مصادر مختلفة تشير إلى وجود دراساتٍ حول رفع سعر الخبز جرّاء الزيادة في أسعار الطحين، بحوالى ٤٠٠ ليرة للكيلوغرام، أي من مليونَي ليرة للطنّ إلى ٢،٤ مليون ليرة (٧٩٦ دولاراً و٩٥٥ دولاراً على التوالي).

تُلاحَظ هذه الديناميات التضخّمية في أرجاء العالم كافّة، وقد بلغت مستويات قياسية في شباط ٢٠٢٢ بحسب مؤشّر منظمة الأغذية والزراعة العالمية (الفاو) لأسعار الغذاء العالمية، بمتوسّطٍ قدره ١٤٠،٧ نقطة، وبزيادةٍ نسبتها ٣،٩ في المئة منذ كانون الثاني، وحوالى ٢٠،٧ في المئة فوق المستوى المُسجَّل قبل عام. على الصعيد العالمي، شهدت أسعار مختلف أنواع الأعلاف ارتفاعاً كبيراً ملحوظاً في السنتَين الماضيتَين، حيث سجّل مثلاً طنّ الذرة ارتفاعاً من ١٨٠ دولاراً في العام ٢٠٢٠، إلى حوالى ٣٤٠ دولاراً اليوم. لم يَحُل هذا السياق الدولي دون بروز انتقاداتٍ في الصحف الموالية للنظام السوري، تُدين كبار التجّار لاستغلالهم الأزمة في أوكرانيا، ومساهمتهم في رفع الأسعار بسبب احتكارهم لاستيراد سلعٍ معيّنة، أو بسبب تخزينهم السلع للحدّ من الكمّيات في السوق وبيعها لاحقاً بأسعار أعلى. كذلك أشارت تقارير مماثلة في الشمال الغربي إلى استغلال الأزمة من الجهات النافذة التابعة لهيئة تحرير الشام، والتجّار المرتبطين بها.

إضافةً إلى ما سبق، قد تدفع أيضاً الحربُ الأوكرانية وعواقبُها في أوروبا الحكومات الأوروبية، وهي الجهات المانحة الأبرز، إلى تحويل أولويّاتها أكثر فأكثر بعيداً عن سوريا، خصوصاً أن ٣،٥ ملايين شخص تقريباً فرّوا من أوكرانيا، والعدد في تصاعدٍ على الأرجح. وكان سبق أن انخفضت المساعدة المالية الإنسانية المُقدَّمة لسوريا في السنوات القليلة الماضية، حتى وصلت في العام ٢٠٢١ إلى ٣،٦ مليارات دولار، وهو أدنى مستوى لها منذ العام ٢٠١٥. غطّت هذه المساعدة ما يزيد قليلاً عن ثلث إجمالي احتياجات التمويل (المُقدَّرة بـ١٠،٠٥٢ مليارات دولار). يحدث ذلك كلّه وحاجةُ الشعب السوري إلى المساعدة الإنسانية آخذةٌ في الازدياد. فقد احتاج ما يُقدَّر بـ١٢ مليون شخص يعاني من انعدام الأمن الغذائي (٥٥،٣ في المئة من السكان) و١٤،٦ مليون شخص (٦٧،٣ في المئة من السكان) إلى المساعدة الإنسانية في شباط ٢٠٢٢.

في هذا السياق، سيفاقم ارتفاع تكلفة المواد والسلع، بما فيها القمح والنفط، صعوبة شرائها، وقد يؤدّي إلى نقص فيها، ويساهم في زيادة تكلفة الإنتاج. على سبيل المثال، سيتأثّر قطاع الزراعة سلباً نتيجة تعطّل الإنتاج العالمي للأسمدة، من جملة عوامل أخرى. ناهيك عن هذه الآثار، ستعمد الحكومة السورية والسلطات الأخرى على الأرجح إلى استغلال الوضع لاتخاذ المزيد من التدابير التقشّفية، وزيادة أسعار مواد وسلع معيّنة مدعومة، مثل الخبز والمازوت والغاز، بحجّة ارتفاع الأسعار في الأسواق العالمية ونقص التمويل.

ما الخيارات المتاحة للسلطات المحلية؟

بعد ساعات قليلة من بدء الغزو الروسي، عقدت الحكومة السورية اجتماعاً طارئاً في ٢٤ شباط بغية إعداد خطّة لتخفيف تداعيات الحرب والتطوّرات الدولية على الوضع الاقتصادي الداخلي. ومذّاك الحين اتّخذت دمشق في هذا الإطار عدداً من الإجراءات، مثل منع المنتجين من تصدير أصناف محدّدة [١] حرصاً على الأمن الغذائي في البلاد، وتلبيةً لاحتياجات السوق المحلية في الفترة الراهنة، وفي شهر رمضان، ولضمان الإنتاج الزراعي والصناعي. كذلك أعلنت الحكومة أنها ستعمد في الشهرَين التاليَين إلى ترشيد توزيع المنتجات الأساسية على السكان، مثل القمح والمازوت، وأنها ستشدّد رقابتها على سوق الصرف الأجنبي سعياً إلى تحقيق الاستقرار فيه. وقد اتّخذ مصرف سوريا المركزي بدوره، في ٧ آذار، قراراً بزيادة قائمة الواردات التي يمكن تمويلها بالعملات الأجنبية المُشتراة من شركات الصرافة، وهو ما سيزيد الطلب على الدولار. وفي اليوم نفسه، أعلنت المؤسسة العامة للأعلاف عن مناقصة جديدة لشراء ٤٠ ألف طنّ من الذرة، و٤٠ ألف طنّ من الشعير، و٢٠ ألف طنّ من فول الصويا، في ضوء الحرب الأوكرانية، وتلبيةً للاحتياجات المحلية.

فضلاً عن ذلك، بدأ المسؤولون السوريون بالبحث عن بدائل للقمح الروسي. فقد أعلن مدير المؤسسة السورية للحبوب، عبد اللطيف الأمين، في منتصف آذار ٢٠٢٢، أن المؤسسة في صدد شراء ٢٠٠ ألف طنّ من القمح من الهند، مضيفاً أن تكلفة استيراد طنّ القمح ارتفعت من ٣١٧ دولاراً إلى ٤٠٠ دولار بسبب ارتفاع أسعار التأمينات. مع ذلك، كان المسؤولون السوريون قد أعلنوا في مناسبات عدّة أن كمّية القمح في البلاد تكفي حتى أواخر العام ٢٠٢٢ تقريباً.

إلى جانب هذا النقص العام في القمح في البلاد وارتفاع الأسعار، يُرجَّح أن يزداد أكثر التنافسُ بين مختلف السلطات على شراء إنتاج الفلاحين والمزارعين السوريين من القمح. وبالفعل، في العامَين الماضيَين، استطاع كلٌّ من الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا والحكومة السورية المؤقّتة شراء كمّيات كبيرة من القمح من المزارعين المحليين مقابل أسعار أعلى من أسعار النظام السوري. فقد حصلت الحكومة السورية المؤقّتة على الدعم من الحكومة التركية عبر مجلس الحبوب التركي لشراء القمح، وحتى استيراد جزءٍ منه من تركيا.

لم تضع السلطات في الشمال الغربي والشمال الشرقي حتى الآن أيّ برنامج للتعامل مع الارتفاع في الأسعار، والنقص المحتمل في مختلف السلع والمواد. تقول هذه السلطات إنها تملك مخزوناً من القمح يكفي حتى أيلول، وطلبت من السكان التحلّي بالصبر إزاء ارتفاع أسعار السلع في مناطقهم. وأعلن سلمان بارودو، الرئيس المشترك لهيئة الاقتصاد والزراعة في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، في ١٩ آذار، أن "إنتاج معمل الزيت النباتي لا يغطّي احتياجات السوق"، وسيُصار إلى مراقبة الأسواق في شمال شرق سوريا، وضبط الأسعار للحفاظ على استقرار السوق. وكانت السلطات المحلية أصدرت قبل بضعة أيام قرارات بالسماح لأصحاب المخابز بخلط طحين القمح مع طحين الذرة، نظراً إلى النقص الحادّ في القمح والطحين في المنطقة. وفي ٥ آذار، عمدت إدارة المخابز والحبوب في حكومة الإنقاذ السورية التابعة لهيئة تحرير الشام، في محافظة إدلب في شمال غرب البلاد، إلى خفض وزن ربطة الخبز بمقدار ١٠٠ غرام، ليصبح وزن الربطة المؤلّفة من ثمانية أرغفة ٦٥٠ غراماً، بسعر ٥ ليرات تركية (٠،٣٤ دولار).

وفي ظلّ هذا الوضع، قد تنتهز بعض الدول الإقليمية، منها تركيا وإيران والإمارات العربية المتحدة، فرصة العزلة السياسية والاقتصادية التي تعاني منها روسيا على الساحة الدولية، والصعوبات التي تواجهها، من أجل زيادة نفوذها واستثماراتها الاقتصادية في سوريا. فالمسؤولون الإيرانيون مثلاً متلهّفون لإبرام الاتفاق النووي مع القوى العالمية، الذي من شأنه أن يسمح لطهران، إذا ما أُبرِم بسرعة، باستغلال موقع روسيا الضعيف لتعزيز وجودها في سوريا، ولا سيما في القطاع الاقتصادي. فضلاً عن ذلك، تتواصل عملية التطبيع مع النظام السوري عقب الزيارة التي أجراها بشار الأسد للإمارات العربية المتحدة، وهي الأولى له إلى دولة عربية منذ العام ٢٠١١. فقد دعا الطرفان خلال هذه الزيارة إلى المزيد من التبادلات الاقتصادية والاستثمار في سوريا. ومع ذلك، لا تزال موانع كبيرة تحول دون القيام بمزيدٍ من الاستثمارات في البلاد، بما فيها العقوبات الغربية، خصوصاً قانون قيصر، وقلّة التمويل لدى الحكومة السورية، وغياب الاستقرار في البلاد على المستويَين السياسي والاقتصادي.

خاتمة

من المتوقّع أن تُلحِق الحرب في أوكرانيا، جنباً إلى جنب مع آثارها العالمية، الضررَ بشعبٍ سوري يختنق أصلاً بفعل الوضع الاجتماعي والاقتصادي الكارثي، وغلاء المعيشة. لا تستطيع الغالبية العظمى من الشعب مواجهة هذا الوضع من دون أشكال المساعدة وآليات التأقلم المختلفة، بما فيها التحويلات من الخارج، والعمل في أكثر من وظيفة. ولن تكون القرارات المُتّخَذة من الحكومة السورية، وسلطات الأمر الواقع في شمال غرب البلاد وشمال شرقها، لمحاولة تخفيف حدّة الآثار، كافيةً لوضع حدّ لارتفاع أسعار المواد والسلع الأساسية، والحؤول دون حصول نقصٍ في المستقبل.

 

* جوزيف ضاهر هو أستاذ منتسب بدوام جزئي في معهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا (إيطاليا)، ويعمل تحت رعاية المشروع البحثي "زمن الحرب وما بعد الصراع في سوريا" ضمن برنامج مسارات الشرق الأوسط. وضاهر حائز على دكتوراه في دراسات التنمية من معهد الدراسات الشرقية والإفريقية في جامعة لندن (٢٠١٥)، ودكتوراه في العلوم السياسية من جامعة لوزان في سويسرا (٢٠١٨).

تولّت ترجمة هذه الورقة مايا صوّان.

 

من نحن

  •  

    أسَّسَ مركز روبرت شومان للدراسات العليا في معهد الجامعة الأوروبية برنامج مسارات الشرق الأوسط في العام ٢٠١٦، استكمالاً للبرنامج المتوسّطي الذي وضع المعهد في طليعة الحوار البحثي الأورومتوسّطي بين العامَين ١٩٩٩ و ٢٠١٣.

    يطمح برنامج مسارات الشرق الأوسط إلى أن يصبح جهة مرجعية دولية للأبحاث التي تتعلّق بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتي تنظر في التوجّهات والتحوّلات الاجتماعية-السياسية، والاقتصادية، والدينية. ويسعى البرنامج إلى تحقيق هدفه هذا من خلال تشجيع البحث متعدّد التخصّصات بناءً على نتائج العمل الميداني، والتعاون مع باحثين من المنطقة. ويفيد البرنامج من خبرة باحثين ناطقين بلغات المنطقة الرئيسة، بما فيها العربية الفصحى والعامية، والفارسية، والطاجيكية، والتركية، والروسية.

    للمزيد ...
Funded by the European Union