تضمن اتفاق جنيف 12 بنداً، وركز على أبرز القضايا التي من شأنها تعزيز التهدئة والتوصل لهدنة دائمة عبر خفض التوتر ومعالجة بعض القضايا الإنسانية المستخدمة في التصعيد. تناول الاتفاق وقف إطلاق النار، وإخلاء مناطق التماس من أي وجود عسكري، وانسحاب المرتزقة، وفتح الطرق الرئيسية، وإيقاف عمليات القبض على الهوية، وتبادل الأسرى، وتعزيز آليات وقف إطلاق النار بين الطرفين، وغير ذلك من البنود الهامة والمترابطة.[4] تم إسناد تنفيذ بنود هذه الاتفاقية إلى اللجنة العسكرية المشتركة، أو ما أُطلق عليه "لجنة 5+5"، في إشارة إلى خمسة أعضاء يفترض أن يمثلوا كلاً من الطرفين العسكريين، على أن يكون مقر اللجنة الرئيسي مدينة سرت.
عملياً، تمكنت اللجنة حتى الآن من تنفيذ حوالي 40 بالمئة من بنود الاتفاقية. فقد تم وقف إطلاق النار، وفُتحت الطرق الرئيسية، وجرى تبادل الأسرى، واستمر التواصل بين الطرفين، وهذه كلها بنود تحققت خلال عشرة أشهر، ما يعتبر إنجازاً كبيراً بالمقارنة مع الوضع السابق الذي وصف بالكارثي. بيد أن العجز عن تنفيذ بقية البنود يجعل من هذا النجاح هشاً للغاية، ولا سيما بالنظر لترابط بنود الاتفاق مع بعضها البعض.
وعلى الرغم من جهود لجنة 5+5، تبقى التحديات والعراقيل ضخمة، ويبقى غياب الثقة بين الأطراف المحلية مشكلة تهدد بانهيار الهدنة وتجدّد الانفجار. فما هي التحديات التي تواجهها اللجنة؟ وكيف انعكس تطبيق بعض بنود الاتفاقية على مدينة سرت ومحيطها حتى الآن؟
تجميد اتفاقيات التدريب العسكري: قبول عسكري ورفض سياسي
واجهت اللجنة عقبات مختلفة في تنفيذ بنود اتفاق جنيف المتعلقة بتجميد الاتفاقيات العسكرية. فقد اصطدمت أولى محاولات اللجنة تنفيذ هذه البنود بمعارضة سياسية وعسكرية. ففي 14 أغسطس 2021، وجهت اللجنة كتاباً رسمياً إلى المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية بشأن تجميد كافة الاتفاقيات ومذكرات التفاهم العسكرية - وخاصة مع تركيا وروسيا – إلى حين انتخاب رئيس للدولة، لكن الكتاب قوبل بالرفض من قبل القوى السياسية، وعلى رأسها المجلس الأعلى للدولة الذي رفض تدخل اللجنة في الشأن السياسي والاتفاقيات الدولية على حد قوله.[5]
وقد تزامن موقف المجلس الأعلى للدولة ذاك، والذي توافق مع مواقف قوى سياسية أخرى، مع تسريب وثيقة صادرة عن اللجنة توصي فيها بإعادة هيكلة بعض الأجهزة الأمنية والعسكرية التابعة لحكومة الوفاق. ساهم تسليط الإعلام على هذه الوثائق في تحريك ملحوظ للرأي العام، حيث انتقدت المنصات الإعلامية والنشطاء والمدونون تركيز اللجنة على حكومة الوفاق حصراً، دون التطرق إلى المرتزقة الذين جلبتهم القيادة العامة دون اتفاقيات شرعية، أو هيئة الاستثمار العسكري التي شكّلتها دون قانون واضح. كما انتقدت أيضاً تصريحات القيادة العامة الأخيرة وإعلانها عدم تبعيتها أو اعترافها بحكومة الوحدة الوطنية مطلقاً، ما ينسف السبب الأساس للحوار معها.[6]،[7]
والأرجح أن اللجنة لم تركز على المجموعات المسلحة في غرب ليبيا عن قصد. فاستهدافها أو ذكرها لبعض الأجهزة الأمنية، أو المجموعات المسلحة التابعة لحكومة الوفاق سابقاً، جاء بناء على ما مسودة ميزانية حكومة الوحدة الوطنية، والتي أظهرت هذه الأجهزة والمجموعات بوصفها مستقلة وغير تابعة لوزارة الدفاع أو الداخلية، وبوصفها قوات غير موحدة في تبعيتها.
وقد تراجعت شعبية اللجنة بعد تسريب الوثيقة المذكورة. فجزء من التيار المناهض للقيادة العامة انتقد تلك الإجراءات وشكّك في ولاء عضو لجنة 5+5 عن جيش حكومة الوفاق اللواء أحمد أبو شحمة. وكان أسلوب تعامل اللواء وتحركاته الأخيرة مثار شكوك بالنسبة للبعض، خاصة وأنه كان في السابق مسؤولاً عن تأمين سرت قبل سقوطها في قبضة القيادة العامة في يناير 2020 دون مقاومة. ولم يعلق اللواء على حملة الانتقادات ضده حتى الآن، باستثناء تصريحه أن هذه المراسلات الرسمية سرية ولم يكن من المفروض تسريبها للإعلام، الأمر الذي أذكى الحملة عليه بداعي انعدام الشفافية.
كما أن قصور فهم العامة لبنود اتفاق جنيف ساهم بشكل واضح في خلق فراغ استغلته القوى السياسية المعارضة للتوافق. فتجميد الاتفاقيات العسكرية، وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والعسكرية ودمجها بشكل منظم، يعتبر من بنود الاتفاق التي وُجدت اللجنة من أجلها. وقد يكون العامة غير مطلعين على بنود الاتفاق، بيد أن القوى السياسية والأدوات الإعلامية التابعة لهم استخدمت ذلك لنسف البنود التي بنيت عليها الهدنة.
الآثار الإيجابية لفتح الطريق الرئيسي بين الشرق والغرب الليبي
تسير لجنة 5+5 وفق خطى مدروسة ومتوازنة بين المهام العسكرية والقضايا التي تمس الشأن العام. فبنود اتفاق جنيف لوقف إطلاق النار لم تصمَّم لمعالجة الصراع العسكري فحسب، بل تناولت بعض القضايا الإنسانية والاجتماعية أيضاً.[8] فقد تمكنت لجنة 5+5 من فتح طريقين من أصل ثلاث طرق كانت مغلقة - هما الطريق الساحلي الرابط بين سرت ومصراتة، والطريق الجنوبي الرابط بين غريان الشويرف - فيما بقي الطريق الرابط بين الجفرة وأبوقرين مغلقاً حتى الآن.
أدى فتح الطريق الساحلي إلى تصاعد ملحوظ في شعبية اللجنة 5+5 في أوساط العامة. فهذا الطريق الرئيسي والهام بقي مغلقاً منذ يناير 2020 إبان تشكل خطوط التماس في منطقة سرت، وقد سبق أن انتهت كل محاولات فتحه بالفشل بسبب تعنّت الأطراف المعنية. فقوات حكومة الوفاق الوطني رأت في تواجد مرتزقة الجنجاويد وفاغنر في مدينتي سرت والجفرة تهديداً لقواتها يحول دون موافقتها على فتح الطريق. لكن حتى عند اقتناع حكومة عبد الحميد الدبيبة وإعلانها فتح الطريق في يونيو 2021، رفض ممثلي القيادة العامة في اللجنة ذلك الإعلان الذي تم دون تنسيق معهم، على حد قولهم، ودون اتخاذ الترتيبات الأمنية اللازمة.
الجدير بالذكر أن الطريق الساحلي المذكور لا يعتبر فقط شرياناً رئيسياً لمدينة سرت، بل هو أيضاً طريق تجاري واجتماعي هام يصل بين شرق وغرب وجنوب ليبيا، وسيكون لفتحه أثر إيجابي بالغ في تعزيز التواصل بين شرق وغرب وجنوب ليبيا عبر مدينة سرت.
أما على مستوى المدينة نفسها، فسرعان ما ظهرت الآثار الإيجابية لفتح الطريق، فانخفضت أسعار السلع بشكل ملحوظ بسبب انخفاض قيمة النقل، كما شهدت المدينة منذ اليوم الأول حركة واسعة للتبادل التجاري بين شرق وغرب ليبيا، حيث تعبر مئات الشاحنات يومياً لنقل السلع والبضائع بشكل آمن وبكلفة تقل عن كلفة الطرق الجنوبية الطويلة والخطرة.
كذلك تصاعدت الآمال بتجاوز أزمة المحروقات التي كانت قد ضربت سرت خلال فترة إغلاق الطريق. فالمدينة والقرى المجاورة لها تتزود باحتياجاتها من المحروقات من مستودع مدينة مصراتة المركزي. وعلى الرغم من تسيير عدد من الشاحنات نحو المدينة، إلا أن تمادي الأزمة، وجباية المحطات رسوماً إضافية من المواطنين، وفّر بيئة مناسبة لتبادل التهم. وقد بدأت أصوات عدة في سرت تطالب رسمياً بإنشاء مستودع للمحروقات داخل المدينة لحل الأزمة بشكل جذري.
دور سرت في التبادل الخامس للأسرى
حققت لجنة 5+5 أيضاً نجاحاً لافتاً على مستوى إطلاق سراح الأسرى والمعتقلين على الهوية بين طرفي الصراع، والذين يقبع عدد هائل منهم في سجون طرفي الصراع نتيجة تقارير خاطئة أو اشتباه. وكانت اللجنة قد توّجت جهودها على هذا الصعيد في 21 أغسطس، حيث أجرت خامس عملية تبادل أسرى ومعتقلين على خطوط التماس، تحديداً على بعد 50 كم غربي سرت.
وعلى الرغم من النتائج المبشرة التي تحققت في هذا الملف، إلا أن الإعلام لعب دوراً سلبياً مرة أخرى بتسليطه الضوء على هوية المفرج عنهم. وبينما لم تُنشر أي قائمة للأسرى الذين أفرجت عنهم قوات حكومة الوفاق، نُشرت قائمة الأسرى الذين أفرجت عنهم القيادة العامة في كافة وسائل التواصل الاجتماعي، وكان محور الانتقاد هذه المرة أن خمسة أسرى على الأقل لم يؤسروا خلال معارك بل قُبض عليهم بناءً على الهوية أو لاشتباه في ولائهم لحكومة الوفاق الوطني. وكان نصيب مدينة سرت من القائمة - البالغ عدد أسمائها 17 معتقلاً - ثلاثة أشخاص اعتُقلوا من منازلهم دون مشاركتهم في الحرب.
وتعتبر هذه المرة الأولى التي يدخل بها معتقلون من سرت ضمن تبادل أسرى. فمعظم معتقلي المدينة، وبغض النظر عن أسباب اعتقالهم، كان يجري الإفراج عنهم بعد أشهر، وذلك بعد التحقيق معهم للتأكد من عدم تورطهم في أي أعمال مسلحة أو سياسية ضد القيادة العامة.
خاتمة
من الواضح أن بنود وقف إطلاق النار مترابطة وينبغي التعامل معها كحزمة واحدة، فإهمال أي بند سيؤثر على البنود الأخرى بنسب متفاوتة. على سبيل المثال، عرقلة أو فشل تطبيق المادة الثانية حتى الآن - والتي تدفع باتجاه إخلاء القوات الأجنبية والمرتزقة وإعادة تمركز القوات العسكرية المحلية - أثّر بشكل ملحوظ على قدرة اللجنة على استكمال فتح الطرق البرية بشكل كامل ومستقر نسبياً، وهو ما يظهر في طريق الجفرة أبوقرين الذي ما يزال مغلقاً.
كما نلاحظ من تعاطي العامة مع الإعلام نقصاً في فهم بنود اتفاق جنيف لوقف إطلاق النار، فمعظم الإجراءات التي اتخذتها اللجنة تسير وفقاً لبنود الاتفاق بحسب الفهم الصحيح لها. وقد أدى سوء الفهم هذا، وتهميش لجنة 5+5 لتطبيق المادة الخامسة المتعلقة بالمسار الإعلامي، إلى فراغ إخباري استغلته القوى السياسية لتقويض جهود تنفيذ الاتفاق ومن ثم الانتقال من مرحلة وقف إطلاق النار والهدنة الهشة إلى هدنة دائمة، وصولاً إلى التشبيك بين مختلف القوى ضمن مشروع تعاون متكامل.
ولا يكفي نشر بنود الاتفاقيات والمواثيق ووضعها بمتناول العامة، فمعظم هؤلاء قد لا يطلعون على البنود بشكل معمق ولا يدركون المعنى الحقيقي لهذه الاتفاقات والمواثيق، ما يجعلهم ضحية للقوى التي تجد مصلحتها في تقويض الاستقرار وتُمسك بأدوات الإعلام الموجَّه. وبالتالي فإن التأكد من فهم العامة للاتفاقات السياسية وبنودها عبر مختلف الأدوات سيساهم بشكل أفضل في نجاح هذه الاتفاقات وتسهيل تنفيذها.
قد يمثل نجاح لجنة 5+5 في تنفيذ الاتفاق اللبنة الأولى للاستقرار في ليبيا، فالاتفاق يعالج عدة جوانب هامة ويسعى لخلق أرضية مستقرة للانتقال من الحرب إلى الاستقرار ومن ثم التنمية، وهو ما قد يكون بداية للتشبيك الاقتصادي بين ليبيا والمجتمع الدولي. إن نقل الصراع الليبي من مرحلة التنافس على السيطرة إلى مرحلة التعاون على التنمية سينعكس بشكل إيجابي على كافة دول حوض المتوسط.
[1] عمر الهواري، "المدينة في الوسط: استقرار هش وفرص مستقبلية في سرت"، مسارات الشرق الأوسط، معهد الجامعة الأوروبية، 2019.https://cadmus.eui.eu//handle/1814/65610
[2] عمر الهواري، "كيف أصبحت مدينة سرت مركزاً للصراع في ليبيا"، مسارات الشرق الأوسط، معهد الجامعة الأوروبية، 2021.https://cadmus.eui.eu//handle/1814/69879
[3] حكم القوات المسلحة العربية الليبية في سرت: زعزعة التوازن الهش، مسارات الشرق الأوسط، معهد الجامعة الأوروبية، 2021.https://cadmus.eui.eu//handle/1814/70701
[4] للاطلاع على اتفاقية جنيف، انظر https://unsmil.unmissions.org/sites/default/files/20201023_ceasefire_agreement_final_arb_0.pdf
[5] للاطلاع على بيان المجلس الأعلى للدولة، انظر: https://www.facebook.com/TheHighCouncilOfState/photos/a.232824847276020/947088269183004/?type=3
[6] القدس العربي، "الناطق باسم حفتر: القوات المسلحة لا يربطها أي رابط بالحكومة حتى على مستوى التواصل"، 28 أبريل 2021، https://www.alquds.co.uk/الناطق-باسم-حفتر-القوات-المسلحة-لا-يرب/
[7] روسيا اليوم،" حفتر يرفض خضوع جيش ليبيا لأي سلطة.. هل الصدام قادم مع المجلس الرئاسي؟"، 10 أغسطس 2021، https://arabic.rt.com/prg/حفتر-يرفض-خضوع-جيش-ليبيا-لأي-سلطة-هل-الصدام-قادم-مع-المجلس-الرئاسي-1260910/اسأل-أكثر/
[8] عمر الهواري، "كيف أصبحت مدينة سرت…"، مصدر سابق.