مبنى المحافظة في مدينة السويداء
المصدر: السويداء ٢٤
من يقف وراء مظاهرة ٤ ديسمبر؟
في ٢٧ نوفمبر، نفّذ الناشط شادي أبو عمار، احتجاجاً منفرداً على سوء الأوضاع، أمام مبنى المحافظة في مدينة السويداء، وأوقف حركة السير، مطلقاً النار في الهواء. وبعد يوم واحد، دعا الناشط إلى مظاهرة في ٤ ديسمبر. وأبو عمار، مُهجّر من بلدة شبكي شرقي السويداء بعد المذابح التي اقترفها تنظيم الدولة الإسلامية فيها في آب ٢٠١٨. وقد انتمى الناشط لفترة وجيزة في صيف العام ٢٠٢١، إلى حزب اللواء السوري المعارض، المُتهمِ من قبل السلطات السورية بالعمالة لإسرائيل، والذي تراجع حضوره بعدما تحالفت ضده عصابات أمنية مسلحة ومليشيا الدفاع الوطني، ولاحقت عناصره وصولاً إلى تصفية واعتقال قادة ذراعه العسكرية المسماة "قوة مكافحة الارهاب" شرقي محافظة السويداء في حزيران ٢٠٢٢.
لذا، لاقت دعوة أبو عمار صدىّ ايجابياً عند الناس، وأيضاً لدى بعض الفصائل الأهلية المُسلحة الصغيرة التي روجت بدورها للدعوة بين محازبيها وأنصارها وطلبت منهم المشاركة عزّلاً من دون سلاحهم. في حين قررت حركة رجال الكرامة، أكبر الفصائل الأهلية المسلحة في السويداء، عدم المشاركة في المظاهرة وعممت ذلك القرار على عناصرها. وفي العموم، يشعر بعض أقطاب الفصائل الأهلية المسلحة وجمهورهم، بالغضب من السلطة في دمشق، ويحملونها مسؤولية مباشرة عما آلت إليه الأوضاع في السويداء؛ من الانتهاكات التي مارستها العصابات المحلية المرتبطة بالأجهزة الأمنية ضد الأهالي كترويج وتجارة المخدرات، والخطف مقابل الفدية. وكانت تلك الفصائل الأهلية المسلحة قد خاضت منتصف العام ٢٠٢٢ مواجهات مسلحة عنيفة مع عصابة راجي فلحوط، أكبر عصابة أمنية في المحافظة، وعملت على تفكيكها وتدمير مقراتها وطرد وقتل عناصرها. كما تتهم هذه القوى الأهلية المسلحة السلطة بدمشق، بالمسؤولية عن تحويل السويداء إلى معبر لتهريب المخدرات إلى الأردن، عبر مجموعة من العصابات المحلية.
وبالفعل وفي استجابة لدعوة أبو عمار، تظاهر بضعة مئات من الأشخاص أمام مبنى المحافظة في مدينة السويداء، في ٤ ديسمبر ٢٠٢٢، للاحتجاج على تدهور الأوضاع المعاشية. إذ تجمّع بضعة عشرات من عناصر تلك الفصائل الأهلية، للتظاهر بشكل أعزل، مع وجود عدد قليل من المسلحين منهم. ولكن المفاجئ، كان حضور بضعة مئات من الشباب غير المنظمين في أي قوى سياسية أو أهلية ممن تقل أعمارهم عن ٢٥ عاماً، ممن لم يشاركوا قبل في أي من الاحتجاجات السابقة. بعض أولئك الشباب تسربوا يومها من صفوف مدارسهم الثانوية للمشاركة في المظاهرة.
الانزلاق إلى العنف
في الوقت الذي أبقت فيه الفصائل المشاركة في المظاهرة على نوع من الانضباط بين عناصرها، فإن الشباب غير المنظمين، وبعد حدوث الاستفزازات الأمنية، خرجوا عن السيطرة كلياً، وتسببوا باندلاع أعمال عنف ووقوع سرقات وتخريب للممتلكات العامة. إذ اقتحمت سيارة لقوات الأمن مزودة برشاش متوسط المظاهرة، واعتلى عناصر مليشيا كتائب البعث الموالية سطح مبنى المحافظة شاهرين أسلحتهم. وتسبب ذلك باستفزاز المتظاهرين، فردوا باقتحام مبنى المحافظة، وحطموه، وأحرقوا أجزاء منه، ومزقوا صور الرئيس السوري. وعندما حاول المتظاهرون اقتحام مبنى قيادة الشرطة المجاور، تصدت لهم قوات الأمن بالرصاص الحي، ما تسبب بمقتل متظاهر واحد، وإصابة ١٨ آخرين.
ويبدو بأن القوى الأمنية بدورها تفاجأت بالتطورات، وكان واضحاً حجم ارتباكها وتخبط قراراتها؛ من تركها لمبنى المحافظة من دون حماية، إلى عدم استقدامها قوى مكافحة شغب، وصولاً إلى مواجهة المحتجين بالرصاص الحي من دون تحذير. المتظاهرون بدورهم، صدمهم الرد الدموي العنيف، ما تسبب بانفضاض مظاهرتهم مباشرة بعده.
وتعتبر هذه المظاهرة تطوراً نوعياً، لأنها المرة الأولى التي تتحول فيها احتجاجات أهلية في السويداء إلى أعمال عنف، والمرة الأولى أيضاً التي يتعرض فيها المتظاهرون الدروز لاطلاق رصاص حي ومباشر من الأجهزة الأمنية سقط قتلى وجرحى على أثره.
تزاوج المطالب السياسية والمعيشي
الملفت أيضاً في المظاهرة كان أيضاً تعمّق المزاوجة بين المطالب السياسية والمعيشية، إذ بدأت المظاهرة بمطالب معاشية وخدمية؛ من تحسين القدرة الشرائية للناس وتأمين المواد الغذائية بأسعار مدعومة، وتأمين الخدمات الرئيسية من كهرباء وماء الشرب. ثم علت هتافات سياسية مرتبطة بثورة العام ٢٠١١، قبل أن يتحول الشعار الرئيسي إلى الشعب يريد إسقاط النظام. وهذه ليست المرة الأولى التي يرفع فيها المتظاهرون شعارات سياسية من هذا النوع في السويداء، بل حدث ذلك خلال موجة التظاهرات المعارضة للنظام التي شهدتها المحافظة خلال السنوات ٢٠١١-٢٠١٣ قبل أن تدخل الثورة السورية طور الحرب الأهلية المسلحة التي اتخذ منها غالبية السكان الدروز موقف الحياد. بعد ذلك تمركزت الاحتجاجات على المطالب المعيشية، وتراجع بُعدُها السياسي. ويتضح ذلك في حملة بدنا نعيش في العام ٢٠٢٠ رداً على انهيار قيمة صرف الليرة السورية، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وكذلك المظاهرات التي أعقبت قرار رفع الدعم عن المواد الأساسية مطلع العام ٢٠٢٢. ومن الملفت أيضاً، ربطاً بنوعية المطالب المرفوعة، أن نشطاء المجتمع المدني، وهم عماد معظم الاحتجاجات المطلبية، كانوا قد أحجموا عن المشاركة في مظاهرة ٤ ديسمبر ووجهوا لها الكثير من الانتقادات باعتبارها عنفاً غير مقبول، وخطوة إلى الوراء للحراك المطلبي. في حين شهدت مظاهرة ٤ ديسمبر، حضوراً رمزياً من المعارضين السياسيين التقليديين.
متظاهرون جدد
وبعيداً عن الهتافات والشعارات المرفوعة، فإن حجم المشاركة الواسع للشباب الذكور دون سن الـ٢٥، يشير إلى مشكلة إضافية تعانيها هذه الشريحة: غياب فرص العمل، وانعدام الأفاق المفتوحة أمامها باستثناء أحد ثلاثة خيارات؛ الانضمام إلى الجيش السوري أو إحدى الفصائل الأهلية المسلحة، أو الانخراط في عالم العصابات والجريمة المنظمة، أو البحث عن فرصة للسفر خارج البلاد. وفي السويداء نسبة كبيرة جداً من رافضي أداء الخدمة العسكرية الإلزامية والاحتياطية في صفوف الجيش السوري، بسبب رفض الدروز المشاركة في القتال خلال الحرب الأهلية السورية. وتعامل السلطة هؤلاء على أنهم متهربين من الخدمة العسكرية، وتفرض عليهم بين حين وآخر، إجراء ما تسميه "تسوية أمنية" كان آخرها في ٥ اكتوبر ٢٠٢٢، والتي تضمنت أولاً، منح تأجيل إداري لمدة ٦ أشهر قبل الالتحاق بقطع الجيش المنتشرة جنوبي سوريا، وثانياً، التوقف عن ملاحقة المطلوبين بقضايا أمنية في حال أجروا التسوية. ولا يتعامل كثير من الدروز بجدية مع هذه التسويات الأمنية، ويعتبرون أنفسهم غير معنيين بها لأنهم ليسوا خارجين عن القانون. ولم يشارك في التسوية الأخيرة سوى ٢٥٠٠ شاب من أصل ٣٠ ألف مطلوب للخدمة العسكرية ومنشق عن الجيش في السويداء. ويبقى الدافع الأبرز لمن أجرى التسوية، هو الحصول على "بطاقة التسوية" التي تتيح لهم التنقل بحرية، واجراء المعاملات في الدوائر الرسمية، بما في ذلك استخراج وثائق سفر، من دون الخوف من التوقيف والاعتقال.
هل ستستمر الاحتجاجات؟
وفي كل الأحوال، لا يبدو بأن لدى السلطة بدمشق حالياً الموارد الكافية لتحسين الأوضاع المعيشية في السويداء، ولا في غيرها من المناطق، ولا تخفيف حدة أزمة المحروقات والكهرباء. وخلال الأيام التي أعقبت المظاهرة، سعت السلطات للتهدئة، وتواصلت عبر القنوات التقليدية مع زعماء السويداء المحليين، واستعمت إلى شكاويهم ومطالباتهم، ودعتهم لبذل ما في وسعهم لتهدئة الناس، ولكن من دون تقديم أي وعود بتحسين الوضع. ولذا، يبدو بأن أسباب الاحتجاج ستظل قائمة في المدى المنظور، رغم أن العنف غير المسبوق، سيفرض على السلطة والمتظاهرين التفكير بشكل جدي قبل أي تحرك مُقبل.
* مازن عزي باحث وصحافي سوري يعمل في مشروع المسارات السورية الذي يشرف عليه مركز روبرت شومان للدراسات العليا في معهد الجامعة الأوروبية. وهو أيضًا محرر قسم السكن، الأرض والملكية في موقع سيريا ريبورت. تركز أبحاثه على الديناميات الاجتماعية والاقتصادية في مناطق سيطرة النظام في سوريا.
** هذا المشروع ممول من قبل الاتحاد الأوروبي وألمانيا كجزء من مبادرة السلام السورية التي تنفذها الوكالة الألمانية للتعاون الدولي. الآراء المعبر عنها في هذا المقال تعبر عن آراء المؤلف ولا تمثل آراء المانحين أو معهد الجامعة الأوروبية.